بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) الذي يخص البعض دون البعض ( فمنها ) عدم التقادم ، وأنه شرط في حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ، وليس بشرط في حد القذف ، والفرق أن الشاهد إذا عاين الجريمة فهو مخير بين أداء الشهادة حسبة لله تعالى ; لقوله تعالى عز وجل { وأقيموا الشهادة لله } وبين التستر على أخيه المسلم ; لقوله { عليه الصلاة والسلام من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة } فلما لم يشهد على فور المعاينة حتى تقادم العهد ; دل ذلك على اختيار جهة الستر ، فإذا شهد بعد ذلك - دل على أن الضغينة حملته على ذلك فلا تقبل شهادته .

لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : " أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم " ، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر ، فيكون إجماعا فدل قول سيدنا عمر رضي الله عنه أن مثل هذه الشهادة شهادة ضغينة ، وأنها غير مقبولة ; ولأن التأخير والحالة هذه يورث تهمة ، ولا شهادة للمتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف حد القذف ; لأن التأخير ثمة لا يدل على الضغينة والتهمة ; لأن الدعوى هناك شرط فاحتمل أن التأخير كان لتأخير الدعوى من المدعي ، والدعوى ليست بشرط في الحدود الثلاثة فكان التأخير ; لما قلنا ، ويشكل على هذا فصل السرقة فإن الدعوى هناك شرط ومع هذا التقادم مانع ، واختلفت عبارات مشايخنا في الجواب عن هذا الإشكال فقال بعضهم : إن معنى الضغينة والتهمة حكمة المنع من قبول الشهادة .

والسبب الظاهر هو كون الحد خالص حق الله تعالى ، والحكم يدار على السبب الظاهر لا على الحكمة ، وقد وجد السبب الظاهر في السرقة ; فيوجب المنع من قبول الشهادة وهذا ليس بسديد ; لأن الأصل تعليق الحكم بالحكمة إلا إذا كان وجه الحكمة خفيا لا يوقف عليه إلا بحرج ، فيقام السبب الظاهر مقامه وتجعل الحكمة موجودة تقديرا ، وههنا يمكن الوقوف عليه من غير حرج ولم توجد في السرقة ; لما بينا ، فيجب أن تقبل الشهادة بعد التقادم .

وقال بعضهم : إنما لا تقبل الشهادة في السرقة ; لأن دعوى السرقة بعد التقادم لم تصح ; لأن المدعي في الابتداء مخير بين أن يدعي السرقة ويقطع طمعه عن ماله احتسابا لإقامة الحد ، وبين أن يدعي أخذ المال سترا على أخيه المسلم فلما أخر - دل تأخيره على اختيار جهة الستر والإعراض عن جهة الحسبة ، فلما شهد بعد ذلك ; فقد قصد الإعراض عن جهة الستر فلا يصح إعراضه ولم يجعل قاصدا جهة الحسبة ; لأنه قد كان أعرض عنها عند اختياره جهة الستر فلم تصح دعواه السرقة فلم تقبل [ ص: 47 ] الشهادة على السرقة ; لأن قبول الشهادة يقف على دعوى صحيحة فيما تشترط فيه الدعوى ، فبقي مدعيا أخذ المال لا غير ; فتقبل الشهادة حسبة ، إذ التقادم لا يمنع قبول الشهادة على الأموال بخلاف حد القذف ; لأن المقذوف ليس بمخير بين بدل النفس وبين إقامة الحد بالدعوى ، بل الواجب عليه دفع العار عن نفسه ودعوى القذف ، فلا يتهم بالتأخير فكانت الدعوى صحيحة منه .

والشيخ منصور الماتريدي - رحمه الله - أشار إلى معنى آخر في شرح الجامع الصغير حكيته بلفظه : وهو أن عادة السراق الإقدام على السرقة في حالة الغفلة وانتهاز الفرصة في موضع الخفية ، وصاحب الحق لا يطلع على من شهد ذلك ولا يعرفهم إلا بهم وبخبرهم ، فإذا كتموا - أثموا ، وقد يعلم المدعي شهوده في غير ذلك من الحقوق ، ويطلبها إذا احتاج إليها فكانوا في سعة من تأخيرها .

وإذا بطلت الشهادة على السرقة بالتقادم قبلت في حق المال ; لأن بطلانها في حق الحد لتمكن الشبهة فيها ، والحد لا يثبت مع الشبهة .

وأما المال فيثبت معها ، ثم التقادم إنما يمنع قبول الشهادة في الحدود الثلاثة ; إذا كان التقادم في التأخير من غير عذر ظاهر ، فأما إذا كان لعذر ظاهر بأن كان المشهود عليه في موضع ليس فيه حاكم فحمل إلى بلد فيه حاكم ، فشهدوا عليه - جازت شهادتهم وإن تأخرت ; لأن هذا موضع العذر فلا يكون التقادم فيه مانعا ، ثم لم يقدر أبو حنيفة - رحمه الله - للتقادم تقديرا ، وفوض ذلك إلى اجتهاد كل حاكم في زمانه ، فإنه روي عن أبي يوسف - رحمه الله - أنه قال : كان أبو حنيفة - رحمه الله - لا يوقت في التقادم شيئا ، وجهدنا به أن يوقت ; فأبى ، وأبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - قدراه بشهر فإن كان شهرا أو أكثر - فهو متقادم ، وإن كان دون شهر - فليس بمتقادم ; لأن الشهر أدنى الأجل فكان ما دونه في حكم العاجل .

ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن التأخير قد يكون لعذر ، والأعذار في اقتضاء التأخير مختلفة فتعذر التوقيت فيه ; ففوض إلى اجتهاد القاضي فيما يعد إبطاء وما لا يعد ، وإذا لم تقبل شهادة الشهود بزنا متقادم هل يحدون حد القذف ؟ حكى الحسن بن زياد أنهم يحدون ، وتأخيرهم محمول على اختيار جهة الستر ، فخرج كلامهم عن كونه شهادة ; فبقي قذفا فيوجب الحد ، وقال الكرخي - رحمه الله - الظاهر أنه لا يجب عليهم الحد ، وهكذا ذكر القاضي في شرحه أنه لا حد عليهم ; لأن تأخيرهم وإن أورث تهمة وشبهة في الشهادة - فأصل الشهادة باق ، فلما اعتبرت الشبهة في إسقاط حد الزنا عن المشهود عليه ، فلأن تعتبر حقيقة الشهادة لإسقاط حد القذف عن الشهود أولى .

( ومنها ) قيام الرائحة وقت أداء الشهادة في حد الشرب في قولهما .

وعند محمد ليس بشرط ، والحجج ستأتي في موضعها .

( ومنها ) عدد الأربع في الشهود في حد الزنا ; لقوله عز اسمه { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقوله سبحانه وتعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } وقوله تبارك وتعالى { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } ; ولأن الشهادة أحد نوعي الحجة فيعتبر بالنوع الآخر ; وهو الإقرار ، وهناك عدد الأربع شرط .

كذا ههنا ، بخلاف سائر الحدود فإن عدد الأقارير الأربع لم يشترط فيها ، فكذا عدد الأربع من الشهود ; ولأن اشتراط عدد الأربع في الشهادة يثبت معدولا به عن القياس بالنص ، والنص ورد في الزنا خاصة فإن شهد على الزنا أقل من أربعة لم تقبل شهادتهم ; لنقصان العدد المشروط ، وهل يحدون حد القذف ؟ قال أصحابنا : يحدون .

وقال الشافعي - رحمه الله - إذا جاءوا مجيء الشهود - لم يحدوا ، وعلى هذا الخلاف إذا شهد ثلاثة ، وقال الرابع : رأيتهما في لحاف واحد ولم يزد عليه - أنه يحد الثلاثة عندنا ولا حد على الرابع ; لأنه لم يقذف إلا إذا كان قال في الابتداء : أشهد أنه قد زنى ، ثم فسر الزنا بما ذكر فحينئذ يحد .

( وجه ) قول الشافعي - رحمه الله - أنهم إذا جاءوا مجيء الشهود كان قصدهم إقامة الشهادة حسبة لله - تعالى - لا القذف ، فلم يكن جناية فلم يكن قذفا .

( ولنا ) ما روي أن ثلاثة شهدوا على مغيرة بالزنا ، فقام الرابع وقال : رأيت أقداما بادية ونفسا عاليا وأمرا منكرا ، ولا أعلم ما وراء ذلك ، فقال سي دنا عمر رضي الله عنه له : الحمد لله الذي لم يفضح رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وحد الثلاثة ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا ; ولأن الموجود من الشهود كلام قذف حقيقة ، إذ القذف هو النسبة إلى الزنا وقد وجد من الشهود حقيقة ، فيدخلون تحت آية القذف ، إلا أنا اعتبرنا تمام عدد الأربع إذا جاءوا مجيء الشهود فقد قصدوا إقامة الحسبة واجبا ; حقا لله [ ص: 48 ] تعالى فخرج كلامهم عن كونه قذفا وصار شهادة شرعا ، فعند النقصان بقي قذفا حقيقة فيوجب الحد .

ولو شهد ثلاثة على الزنا ، وشهد رابع على شهادة غيره - تحد الثلاثة ; لأن شهادتهم صارت قذفا ; لنقصان العدد ، ولا حد على الرابع ; لأنه لم يقذف بل حكى قذف غيره ، ولو علم أن أحد الأربع عبد أو مكاتب أو صبي أو أعمى أو محدود في قذف - حدوا جميعا ; لأن الصبي والعبد ليست لهما أهلية الشهادة أصلا ورأسا ، فانتقص العدد فصار كلامهم قذفا ، والأعمى والمحدود في القذف ليست لهم أهلية الشهادة ، أو إن كانت لهم أهلية الشهادة تحملا وسماعا فقصرت أهليتهما للشهادة فانتقص العدد فصار كلامهم قذفا ، وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعد القضاء قبل الإمضاء ، وإن علم ذلك بعد الإمضاء فإن كان الحد جلدا - فكذلك يحدون ولا يضمنون أرش الضرب في قول أبي حنيفة ، وعندهما يجب في بيت المال على ما ذكرنا في كتاب الرجوع عن الشهادات ، وإن كان رجما - لا يحدون ; لأنه تبين أن كلامهم وقع قذفا ومن قذف حيا ، ثم مات المقذوف - سقط الحد ، وتكون الدية في بيت المال ; لأن الخطأ حصل من القاضي ، وخطأ القاضي على بيت المال ; لأنه عامل لعامة المسلمين وبيت المال مال المسلمين .

ولو شهد الزوج وثلاثة نفر - حد الثلاثة ولاعن الزوج امرأته ; لأن قذف الزوج يوجب اللعان لا الحد ، فانتقص العدد في حق الباقين ، فصار كلامهم قذفا ; فيحدون حد القذف .

ولو علم أن الشهود الأربعة عبيد أو كفار أو محدودون في قذف أو عميان - يحدون حد القذف ، وإن علم أنهم فساق - لا يحدون ، والفرق ما ذكرنا أن العبد والكافر لا شهادة لهما أصلا ، والأعمى والمحدود في القذف لهما شهادة سماعا وتحملا لا أداء ، فكان كلامهم قذفا ، والفاسق له شهادة على أصل أصحابنا سماعا ، وإذا كان كلام الفاسق شهادة لا قذفا فلا يحدون حد القذف ، والله تعالى أعلم ولو ادعى المشهود عليه أن أحد الشهود الأربعة عبد - فالقول قوله ، حتى يقيم البينة أنه حر ; لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : الناس أحرار إلا في أربع : الشهادة والقصاص والعقل والحدود ، والمعنى فيه ما ذكرنا في غير موضع .

( ومنها ) اتحاد المجلس ، وهو أن يكون الشهود مجتمعين في مجلس واحد عند أداء الشهادة ، فإن جاءوا متفرقين - يشهدون واحدا بعد واحد ، لا تقبل شهادتهم ، ويحدون وإن كثروا ; لما ذكرنا أن كلامهم قذف حقيقة ، وإنما يخرج عن كونه قذفا شرعا بشرط أن يكونوا مجتمعين في مجلس واحد وقت أداء الشهادة ، فإذا انعدمت هذه الشريطة - بقي قذفا فيوجب الحد ، حتى لو جاءوا مجتمعين أو متفرقين ، وقعدوا في موضع الشهود في ناحية من المسجد ، ثم جاءوا واحدا بعد واحد وشهدوا - جازت شهادتهم ; لوجود اجتماعهم في مجلس واحد وقت الشهادة ، إذ المسجد كله مجلس واحد ، وإن كانوا خارجين من المسجد ، فجاء واحد منهم ودخل المسجد وشهد ، ثم جاء الثاني والثالث والرابع - يضربون الحد ، وإن كانوا مثل ربيعة ومضر ، هكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : لو جاء ربيعة ومضر فرادى - لحددتهم عن آخرهم ، وإنما قال ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد منهم ; فيكون إجماعا منهم ، والله - تعالى - أعلم .

( ومنها ) أن يكون المشهود عليه بالزنا ممن يتصور منه الوطء ، فإن كان ممن لا يتصور منه كالمجبوب - لا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف .

ولو كان المشهود عليه خصيا أو عنينا - قبلت شهادتهم ويحد ; لتصور الزنا منهما ; لقيام الآلة - بخلاف المجبوب - ( ومنها ) أن يكون المشهود عليه بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة ، فإن كان ممن لا يقدر كالأخرس - لا تقبل شهادتهم ; لأن من الجائز أنه لو كان قادرا لادعى شبهة ، ولو كان المشهود عليه بالزنا أعمى قبلت شهادتهم ; لأن الأعمى قادر على دعوى الشبهة لو كانت عنده شبهة .

ولو شهدوا بالزنا ، ثم قالوا : تعمدنا النظر إلى فرجها - لا تبطل شهادتهم ; لأن أداء الشهادة لا بد له من التحمل ، ولا بد للتحمل من النظر إلى عين الفرج ، ويباح لهم النظر إليها لقصد إقامة الحسبة ، كما يباح للطبيب لقصد المعالجة ، ولو قالوا : نظرنا مكررا - بطلت شهادتهم ; لأنه سقطت عدالتهم ، والله - تعالى - أعلم .

( ومنها ) اتحاد الشهود ، وهو أن يجمع الشهود الأربعة على فعل واحد فإن اختلفوا - لا تقبل شهادتهم ، وعلى هذا يخرج ما إذا شهد اثنان أنه زنى في مكان كذا ، وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر ، والمكانان متباينان ; بحيث يمتنع أن يقع فيهما فعل واحد عادة ، كالبلدين والدارين والبيتين - لا تقبل شهادتهم ولا حد على المشهود عليه ; لأنهم شهدوا بفعلين مختلفين لاختلاف المكانين ، وليس [ ص: 49 ] على أحدهما شهادة الأربع ولا حد على الشهود أيضا عند أصحابنا ، وعند زفر يحدون .

( وجه ) قوله أن عدد الشهود قد انتقص ; لأن كل فريق شهد بفعل غير الذي شهد به الفريق الآخر ، ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة قذفا ، كما لو شهد ثلاثة بالزنا .

( ولنا ) أن المشهود به لم يختلف عند الشهود ; لأن عندهم أن هذا زنا واحد ، وإنما وقع اختلافهم في المكان فثبت بشهادتهم شبهة اتحاد الفعل ; فيسقط الحد ، وعلى هذا إذا اختلفوا في الزمان فشهد اثنان أنه زنى بها في يوم كذا ، واثنان في يوم آخر ، ولو شهد اثنان أنه زنى في هذه الزاوية من البيت ، وشهد اثنان أنه زنى في هذه الزاوية الأخرى منه - يحد المشهود عليه ; لجواز أن ابتداء الفعل وقع في هذه الزاوية من البيت وانتهاؤه في زاوية أخرى منه ; لانتقالهما منه واضطرابهما فلم يختلف المشهود به فتقبل شهادتهم ، حتى لو كان البيت كبيرا لا تقبل ; لأنه يكون بمنزلة البيتين ، ولو شهد أربعة بالزنا بامرأة ، فشهد اثنان أنه استكرهها ، واثنان أنها طاوعته - لا حد على المرأة بالإجماع ; لأن الحد لا يجب إلا بالزنا طوعا ولم تثبت الطواعية في حقها ، ( وأما ) الرجل فلا حد عليه أيضا عند أبي حنيفة - رحمه الله ، وعندهما يحد .

( وجه ) قولهما أن زنا الرجل عن طوع ثبت بشهادة الأربع ، إلا أنه تفرد اثنان منهم بإثبات زيادة الإكراه منه ، وأنه لا يمنع وجوب الحد ، كما لو زنى بها مستكرهة ، ولأبي حنيفة - عليه الرحمة - أن المشهود قد اختلف ; لأن فعل المكره غير فعل من ليس بمكره فقد شهدوا بفعلين مختلفين ، وليس على أحدهما شهادة الأربع فلا يحد المشهود عليه ولا الشهود عند أصحابنا الثلاثة ، خلافا لزفر وقد مر الكلام فيه في اختلافهم في المكان والزمان ، والله - تعالى - أعلم .

ثم الشهود إذا استجمعوا شرائط صحة الشهادة ، وشهدوا عند القاضي سألهم القاضي عن الزنا ما هو وكيف هو ومتى زنى وأين زنى وبمن زنى ؟ أما السؤال عن ماهية الزنا ; فلأنه يحتمل أنهم أرادوا به غير الزنا المعروف ; لأن اسم الزنا يقع على أنواع لا توجب الحد ، قال عليه الصلاة والسلام : " العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه .

" وأما السؤال عن الكيفية ; فلأنه يحتمل أنهم أرادوا به الجماع فيما دون الفرج ; لأن ذلك يسمى جماعا حقيقة أو مجازا فإنه لا يوجب الحد .

وأما السؤال عن الزمان ; فلأنه يحتمل أنهم شهدوا بزنا متقادم ، والتقادم يمنع قبول الشهادة بالزنا ، وأما السؤال عن المكان ; فلأنه يحتمل أنه زنى في دار الحرب أو في دار البغي ، وأنه لا يوجب الحد ، وأما السؤال عن المزني بها ; فلأنه يحتمل أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها كجارية الابن وغير ذلك ، فإذا سألهم القاضي عن هذه الجملة - فوصفوا ، سأل المشهود عليه أهو محصن أم لا ؟ فإن أنكر الإحصان ، وشهد على الإحصان رجلان أو رجل وامرأتان على الاختلاف - سأل الشهود عن الإحصان ما هو ; لأن له شرائط يجوز أن تخفى على الشهود ، فإذا وصفوا - قضي بالرجم ولو شهدت بينة الإحصان أنه جامعها أو باضعها - صار محصنا ; لأن هذا اللفظ في العرف مستعمل في الوطء في الفرج ، ولو شهدوا أنه دخل بها - صار محصنا ، وهذا وقوله جامعها سواء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رحمه الله - لا يصير محصنا .

( وجه ) قوله أن هذا اللفظ يستعمل في الوطء ويستعمل في الزفاف ، فلا يثبت الإحصان مع الاحتمال ، ولهما أن الدخول بالمرأة في عرف اللغة والشرع يراد به الوطء ، قال الله - تعالى عز شأنه - { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } حرم - سبحانه وتعالى - الربيبة بشرط الدخول بأمها ، فعلم أن المراد من الدخول هو الوطء ; لأنها تحرم بمجرد نكاح الأم من غير وطء ، وذكر القاضي في شرحه الاختلاف على القلب فقال على قول أبي حنيفة - رحمه الله : لا يصير محصنا ما لم يصرح بالوطء ، وعلى قول محمد - رحمه الله - يصير محصنا ، ولو شهدوا على الدخول وكان له منها ولد - هو محصن بالإجماع ، وكفى بالولد شاهدا ، والله - تعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية