بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما الذي يخص البعض دون البعض فمنها البداية من الشهود في حد الرجم إذا ثبت بالشهادة ، حتى لو امتنع الشهود عن البداية أو ماتوا أو غابوا كلهم أو بعضهم - لا يقام الرجم على المشهود عليه ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد ، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف استحسانا .

وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنها ليست بشرط ويقام الرجم على المشهود عليه وهو قول الشافعي - رحمه الله - وهو القياس ، وجه القياس أن الشهود فيما وراء الشهادة وسائر الناس سواء ، ثم لا تشترط البداية من أحد منهم فكذا من الشهود ; ولأن الرجم أحد نوعي الحد فيعتبر بالنوع الآخر وهو الجلد ، والبداية من الشهود ليست بشرط فيه كذا في الرجم .

( ولنا ) ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال : يرجم الشهود أولا ، ثم الإمام ، ثم الناس وكلمة " ثم " للترتيب ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم [ ص: 59 ] ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد ; فيكون إجماعا ; ولأن في اعتبار الشرط احتياطا في درء الحد ; لأن الشهود إذا بدءوا بالرجم - ربما استعظموا فعله فيحملهم ذلك على الرجوع عن الشهادة فيسقط الحد عن المشهود عليه بخلاف الجلد ; لأنا إنما عرفنا البداية شرطا استحسانا بالأثر - فيسقط الحد عليه ، والأثر ورد في الرجم خاصة فيبقى أمر الجلد على أصل القياس ; ولأن الجلد لا يحسنه كل أحد ففوض استيفاؤه إلى الأئمة - بخلاف الرجم ، والله - تعالى - أعلم .

ومنها أهلية أداء الشهادة للشهود عند الإقامة في الحدود كلها ، حتى لو بطلت الأهلية بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو حد القذف ، بأن فسق الشهود أو ارتدوا أو جنوا أو عموا أو خرسوا أو ضربوا حد القذف كلهم أو بعضهم - لا يقام الحد على المشهود عليه ; لأن اعتراض أسباب الجرح على الشهادة عند إمضاء الحد بمنزلة اعتراضها عند القضاء به ، واعتراضها عند القضاء يبطل الشهادة فكذا عند الإمضاء في باب الحدود عن القضاء .

وأما موت الشهود وغيبتهم عند الإقامة فلا يمنعان من الإقامة في سائر الحدود إلا الرجم ، حتى لو ماتوا كلهم أو غابوا كلهم أو بعضهم - يقام الحد على المشهود عليه إلا الرجم ; لأنهما ليسا من أسباب الجرح ; لأن أهلية الشهادة لا تبطل بالموت والغيبة بل تتناهى وتتقرر وتختم بها العدالة على وجه لا يحتمل الجرح ، وفي حد الرجم إنما يمنعان الإقامة لا لأنهما يجرحان في الشهادة بل ; لأن البداية من الشهود شرط جواز الإقامة - ولم توجد .

وروي عن محمد في الشهود إذا كانوا مقطوعي الأيدي أو بهم مرض لا يستطيعون الرمي - أن الإمام يرمي ، ثم الناس ، وجعل قطع اليد أو المرض عذرا في فوات البداية ، ولم يجعل الموت عذرا فيه ، وإن ثبت الرجم بالإقرار يبدأ به الإمام ، ثم الناس ، والله - تعالى - أعلم .

ومنها أن لا يكون في إقامة الجلدات خوف الهلاك ; لأن هذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا ، فلا يجوز الإقامة في الحر الشديد والبرد الشديد ; لما في الإقامة فيهما من خوف الهلاك ، ولا يقام على مريض حتى يبرأ ; لأنه يجتمع عليه وجع المرض وألم الضرب ; فيخاف الهلاك ، ولا يقام على النفساء حتى ينقضي النفاس ; لأن النفاس نوع مرض ويقام على الحائض ; لأن الحيض ليس بمرض ، ولا يقام على الحامل حتى تضع وتطهر من النفاس ; لأن فيه خوف هلاك الولد والوالدة ، ويقام الرجم في هذا كله إلا على الحامل ; لأن ترك الإقامة في هذه الأحوال للاحتراز عن الهلاك والرجم حد مهلك ، فلا معنى للاحتراز عن الهلاك فيه إلا أنه لا يقام على الحامل ; لأن فيه إهلاك الولد بغير حق .

ولا يجمع الضرب في عضو واحد ; لأنه يفضي إلى تلف ذلك العضو ، أو إلى تمزيق جلده ، وكل ذلك لا يجوز ، بل يفرق الضرب على جميع الأعضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين إلا الوجه والفرج والرأس ; لأن الضرب على الفرج مهلك عادة ، وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اتق وجهه ومذاكيره } والضرب على الوجه يوجب المثلة وقد { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة } ، والرأس مجمع الحواس وفيه العقل فيخاف من الضرب عليه فوات العقل أو فوات بعض الحواس .

وفيه إهلاك الذات من وجه وقال أبو يوسف - رحمه الله - أيضا : لا يضرب الصدر والبطن ، ويضرب الرأس سوطا أو سوطين أما الصدر والبطن ; فلأن فيه خوف الهلاك .

وأما الرأس ; فلقول سيدنا عمر رضي الله عنه : اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا ، والجواب أن الحديث ورد في قتل أهل الحرب خصوصا قوما كانوا بالشام يحلقون أوساط رءوسهم ، ثم تفريق الضرب على الأعضاء مذهبنا ، وقال الشافعي - عليه الرحمة : يضرب كله على الظهر ، وهذا ليس بسديد ; لأن المأمور به هو الجلد وأنه مأخوذ من ضرب الجلد ، والضرب على عضو واحد ممزق للجلد ، وبعد تمزيق الجلد لا يمكن الضرب على الجلد بعد ذلك ; ولأن في الجمع على عضو واحد خوف الهلاك ، وهذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية