بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يسقط الحد بعد وجوبه فالمسقط له أنواع : منها الرجوع عن الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر ; لأنه يحتمل أن يكون صادقا في الرجوع وهو الإنكار ، ويحتمل أن يكون كاذبا فيه ، فإن كان صادقا في الإنكار يكون كاذبا في الإقرار ، وإن كان كاذبا في الإنكار - يكون صادقا في الإقرار فيورث شبهة في ظهور الحد ، والحدود لا تستوفى مع الشبهات ، وقد روي { أن ماعزا لما أقر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا ; لقنه الرجوع فقال عليه الصلاة والسلام : لعلك قبلتها ، لعلك مسستها } .

{ وقال عليه الصلاة والسلام : لتلك المرأة أسرقت قولي : لا ما إخالك سرقت } وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام تلقينا للرجوع فلو لم يكن محتملا للسقوط بالرجوع - ما كان للتلقين معنى ، وهذا هو السنة للإمام إذا أقر إنسان عنده بشيء من أسباب الحدود الخالصة أن يلقنه الرجوع درأ للحد ، كما فعل عليه الصلاة والسلام في الزنا والسرقة ، وسواء رجع قبل القضاء أو بعده قبل الإمضاء أو بعد إمضاء بعض الجلدات أو بعض الرجم وهو حي بعد ; لما قلنا ، ثم الرجوع عن الإقرار قد يكون نصا ، وقد يكون دلالة ، بأن أخذ الناس في رجمه ; فهرب ولم يرجع ، أو أخذ الجلاد في الجلد ; فهرب ولم يرجع ، حتى لا يتبع ولا يتعرض له ; لأن الهرب في هذه الحالة دلالة الرجوع وروي أنه { لما هرب ماعز ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلا خليتم سبيله } دل أن الهرب دليل الرجوع ، وأن الرجوع مسقط للحد ، وكما يصح الرجوع عن الإقرار بالزنا يصح عن الإقرار بالإحصان ، حتى لو ثبت على الإقرار بالزنا ، ورجع عن الإقرار بالإحصان - يسقط عنه الرجم ويجلد ; لأن الإحصان شرط صيرورة الزنا علة ; لوجوب الرجم فيصح الرجوع عنه ، كما يصح عن الزنا ; فيبطل الإحصان ويبقى الزنا ، فيجب الجلد .

وأما الرجوع عن الإقرار بالقذف فلا يسقط الحد ; لأن هذا الحد حق العبد من وجه ، وحق العبد بعد ما ثبت لا يحتمل السقوط بالرجوع كالقصاص وغيره ، ومنها تصديق المقذوف والقاذف في القذف ; لأنه لما صدقه فقد ظهر صدقه في القذف ، ومن المحال أن يحد الصادق على الصدق ; ولأن حد القذف إنما وجب ; لدفع عار الزنا وشينه عن المقذوف ، ولما صدقه في القذف فقد التزم العار بنفسه ، فلا يندفع عنه بالحد فيسقط ضرورة ، ومنها تكذيب المقذوف المقر في إقراره بالقذف بأن يقول له : إنك لم تقذفني بالزنا ; لأنه لما كذبه في القذف فقد كذب نفسه في الدعوى ، والدعوى شرط ظهور هذا الحد .

( ومنها ) تكذيب المقذوف حجته على القذف - وهي البينة - بأن يقول بعد القضاء بالحد قبل الإمضاء : شهودي شهدوا بزور ; لأنه يحتمل أن يكون صادقا في التكذيب فثبت الشبهة ، ولا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة .

( ومنها ) تكذيب المزني بها المقر بالزنا قبل إقامة الحد عليه بأن قال رجل : زنيت بفلانة فكذبته وأنكرت الزنا ، وقالت : لا أعرفك - ويسقط الحد عن الرجل ، وهذا قولهما ، وقال محمد : لا يسقط ، كذا ذكر الكرخي - رحمه الله - الاختلاف ، وذكر القاضي في شرحه قول أبي يوسف مع قول محمد .

( وجه ) قوله أن زنا الرجل قد ظهر بإقراره ، وامتناع الظهور في جانب المرأة لمعنى يخصها وهو إنكارها ; فلا يمنع الظهور في جانب الرجل ، ولهما أن الزنا لا يقوم إلا بالفاعل والمحل ، فإذا لم يظهر في جانبها - امتنع الظهور في جانبه ، هذا إذا أنكرت ولم تدعي على الرجل حد القذف ، فإن ادعت على الرجل حد القذف - يحد حد القذف ويسقط حد الزنا ; لأنه لا يجب عليه حدان ، هذا إذا كذبته ولم تدعي النكاح .

( فأما ) إذا ادعت النكاح والمهر قبل إقامة الحد عليه - يسقط الحد عن الرجل بالإجماع ; لأنه لم يجب عليها للشبهة ; لاحتمال أن تكون صادقة في دعوى النكاح فتمكنت الشبهة في وجوب الحد عليها ، وإذا لم يجب عليها الحد - تعدى إلى جانب الرجل فسقط عنه وعليه المهر ; لأن الوطء لا يخلو عن عقوبة أو غرامة ، وإن كان دعوى النكاح منها بعد إقامة الحد على الرجل - لا مهر لها عليه ; لأن الوجوب في الفصل الأول لضرورة إقامة الحد ولم توجد ، وعلى هذا إذا أقرت المرأة [ ص: 62 ] بالزنا مع فلان ، فأنكر الرجل وكذبها أو ادعى النكاح على الاتفاق والاختلاف ، ولو أقر الرجل بالزنا بفلانة فادعت المرأة الاستكراه - يحد الرجل بالاتفاق ، فرق بين هذا وبين الأول .

( ووجه ) الفرق أن المرأة في الفصل الأول أنكرت وجود الزنا فلم يثبت الزنا من جانبها ; فتعدى إلى جانب الآخر ، وههنا أقرت بالزنا لكنها ادعت الشبهة لمعنى يخصها - وهو كونها مكرهة - فلا يتعدى إلى جانب الرجل ، والدليل على التفرقة بينهما أنا لو تيقنا بالإكراه - يقام الحد على الرجل بالإجماع ، ولو تيقنا بالنكاح في الفصل الأول - لا يقام الحد على الرجل ، والله - تعالى - أعلم .

( ومنها ) رجوع الشهود بعد القضاء قبل الإمضاء ; لأن رجوعهم يحتمل الصدق والكذب فيورث شبهة ، والحدود لا تستوفى مع الشبهات ، وقد ذكرنا الأحكام المتعلقة برجوع الشهود في باب الحدود كلهم أو بعضهم قبل القضاء أو بعده ، قبل الإمضاء أو بعد الإمضاء ، بما فيه من الاتفاق والاختلاف في كتاب الرجوع عن الشهادات .

( ومنها ) بطلان أهلية شهادتهم بعد القضاء قبل الإمضاء بالفسق والردة والجنون والعمى والخرس وحد القذف ; لما ذكرنا فيما تقدم .

( ومنها ) موتهم في حد الرجم خاصة في ظاهر الرواية ; لما ذكرنا أن البداية بالشهود شرط جواز الإقامة ، وقد فات بالموت على وجه لا يتصور عوده فسقط الحد ضرورة .

( وأما ) اعتراض ملك النكاح أو ملك اليمين فهل يسقط الحد بأن زنى بامرأة ، ثم تزوجها أو بجارية ، ثم اشتراها ؟ عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه ثلاث روايات ، روى محمد - رحمه الله - عنه أنه لا يسقط ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، وروى أبو يوسف عنه أنه يسقط ، وروى الحسن عنه أن اعتراض الشراء يسقط ، واعتراض النكاح لا يسقط .

( وجه ) رواية الحسن أن البضع لا يصير مملوكا للزوج بالنكاح ، بدليل أنها إذا وطئت بشبهة - كان العقر لها ، والعقر بدل البضع ، والبدل إنما يكون لمن كان له المبدل ، فلم يحصل استيفاء منافع البضع من محل مملوك له ، فلا يورث شبهة ، وبضع الأمة يصير مملوكا للمولى بالشراء ، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان العقر للمولى فحصل الاستيفاء من محل مملوك له ; فيورث شبهة فصار كالسارق إذا ملك المسروق بعد القضاء قبل الإمضاء .

( وجه ) رواية أبي يوسف أن المرأة تصير مملوكة للزوج بالنكاح في حق الاستمتاع فحصل الاستيفاء من محل مملوك ; فيصير شبهة كالسارق إذا ملك المسروق .

( وجه ) رواية محمد - رحمه الله - أن الوطء حصل زنا محضا ; لمصادفته محلا غير مملوك له فحصل موجبا للحد والعارض - وهو الملك - لا يصلح مسقطا ; لاقتصاره على حالة ثبوته ; لأنه يثبت بالنكاح والشراء ، وكل واحد منهما وجد للحال فلا يستند الملك الثابت به إلى وقت وجود الوطء ، فبقي الوطء خاليا عن الملك ، فبقي زنا محضا موجبا للحد ، بخلاف السارق إذا ملك المسروق ; لأن هناك وجد المسقط وهو بطلان ولاية الخصومة ; لأن الخصومة هناك شرط ، وقد خرج المسروق منه من أن يكون خصما بملك المسروق ، ولذلك افترقا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ولو غصب جارية فزنى بها فماتت ; روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أن عليه الحد وقيمة الجارية ، وروى الحسن عنهما أن عليه القيمة ولا حد عليه ، وذكر الكرخي أن هذا أصح الروايتين .

( وجه ) رواية أبي يوسف أن الضمان لا يجب إلا بعد هلاك الجارية ، وهي بعد الهلاك لا تحتمل الملك فلا يملكها الغاصب بالضمان فلا يمتنع وجوب الحد .

( وجه ) رواية الحسن أن الضمان لا يجب بعد الهلاك وإنما يجب في آخر جزء من أجزاء الحياة ، وهي محتملة للملك في ذلك الوقت فيستند إلى وقت وجود السبب ; ولأن حياة المحل تشترط ; لثبوت الملك فيه مقصودا بمبادلة مقصودة ، والملك ههنا يثبت ضرورة استحالة اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد في عقد المبادلة ، فلا يشترط له حياة المحل فيثبت الملك في الميت ، وأنه يمنع وجوب الحد ولو غصب حرة فزنى بها فماتت - فعليه الحد والدية ; لأن ملك الضمان في الحرة لا يوجب ملك المضمون ; لأن المحل لا يحتمل التملك فلا يمتنع وجوب الحد ، بخلاف الأمة ، والله - عز وجل - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية