بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
أن المؤذن إذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام في قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف والشافعي : لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة ، والجملة فيه أن المؤذن إذا قال : حي على الفلاح فإن كان الإمام معهم في المسجد يستحب للقوم أن يقوموا في الصف ، وعند زفر والحسن بن زياد يقومون عند قوله : قد قامت الصلاة في المرة الأولى ، ويكبرون عند الثانية لأن المنبئ عن القيام قوله : قد قامت الصلاة لا قوله حي على الفلاح .

ولنا أن قوله : حي على الفلاح دعاء إلى ما به فلاحهم وأمر بالمسارعة إليه فلا بد من الإجابة إلى ذلك ولن تحصل الإجابة إلا بالفعل وهو القيام إليها ، فكان ينبغي أن يقوموا عند قوله : حي على الصلاة لما ذكرنا غير أنا نمنعهم عن القيام كي لا يلغو قوله : حي على الفلاح ; لأن من وجدت منه المبادرة إلى شيء فدعاؤه إليه بعد تحصيله إياه يلغو من الكلام .

أما قوله إن المنبئ عن القيام قوله قد قامت الصلاة فنقول : قوله قد قامت الصلاة ينبئ عن قيام الصلاة لا عن القيام إليها ، وقيامها وجودها وذلك بالتحريمة ليتصل بها جزء من أجزائها تصديقا له على ما نذكر ، ثم إذا قاموا إلى الصلاة إذا قال : المؤذن قد قامت الصلاة كبروا على الاختلاف الذي ذكرنا .

وجه قول أبي يوسف والشافعي أن في إجابة المؤذن فضيلة ، وفي إدراك تكبيرة الافتتاح فضيلة فلا بد من الفراغ إحرازا للفضيلتين من الجانبين ; ولأن فيما قلنا تكون جميع صلاتهم بالإقامة وفيما قالوا بخلافه ولأبي حنيفة ومحمد ما روي عن سويد بن غفلة أن عمر كان إذا انتهى المؤذن إلى قوله : قد قامت الصلاة كبر .

وروي عن بلال رضي الله عنه أنه قال : { يا رسول الله إن كنت تسبقني بالتكبير فلا تسبقني بالتأمين } ولو كبر بعد الفراغ من الإقامة لما سبقه بالتكبير فضلا عن التأمين فلم يكن للسؤال معنى ; ولأن المؤذن مؤتمن الشرع فيجب تصديقه وذلك فيما قلناه لما ذكرنا أن قيام الصلاة وجودها فلا بد من تحصيل التحريمة المقترنة بركن من أركان الصلاة ليوجد جزء من أجزائها فيصير المخبر عن قيامها صادقا في مقالته ; لأن المخبر عن المتركب من أجزاء لا بقاء لها لن يكون إلا عن وجود جزء منها وإن كان الجزء وحده مما لا ينطلق عليه اسم المتركب كمن يقول : فلان يصلي في الحال يكون صادقا ، وإن كان لا يوجد في حالة الإخبار إلا جزء منها ; لاستحالة اجتماع أجزائها في الوجود في حالة واحدة .

وبه تبين أن ما ذكروا من المعنيين لا يعتبر بمقابلة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل عمر رضي الله عنه ثم نقول في تصديق المؤذن فضيلة كما أن إجابته فضلة بل فضيلة التصديق فوق فضيلة الإجابة مع أن فيما قالوه فوات فضيلة الإجابة أصلا إذ لا جواب لقوله : قد قامت الصلاة من حيث القول ، وليس فيما قلنا تفويت فضيلة الإجابة أصلا بل حصلت الإجابة بالفعل وهو إقامة الصلاة فكان ما قلنا سببا لاستدراك الفضيلتين فكان أحق وبه تبين أن لا بأس بأداء بعض الصلاة بعد أكثر الإقامة ، وأداء أكثرها بعد جميع الإقامة إذا كان سببا لاستدراك الفضيلتين ، وبعض مشايخنا اختاروا في الفعل مذهب أبي يوسف لتعذر إحضار النية عليهم في حال رفع المؤذن صوته بالإقامة ، هذا إذا كان الإمام في المسجد فإن كان خارج المسجد لا يقومون ما لم يحضر لقول النبي صلى الله عليه وسلم { لا تقوموا في الصف حتى تروني خرجت } .

وروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال ما لي أراكم سامدين أي : واقفين متحيرين ولأن القيام لأجل الصلاة ولا يمكن أداؤها بدون الإمام فلم يكن القيام مفيدا ، ثم إن دخل الإمام من قدام الصفوف [ ص: 201 ] فكما رأوه قاموا ; لأنه كلما دخل المسجد قام مقام الإمامة وإن دخل من وراء الصفوف فالصحيح أنه كلما جاوز صفا قام ذلك الصف ; لأنه صار بحال لو اقتدوا به جاز فصار في حقهم كأنه أخذه مكانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية