بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما المطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب فلا شك أنه لا قطع فيه ; لأنه حرام فلم يكن مالا ، ويقطع في الذهب ، والفضة ; لأنهما من أعز الأموال ، ولا تفاهة فيهما بوجه ، وكذلك الجواهر ، واللآلئ ; لما قلنا .

وبهذا تبين أن التعويل في هذا الباب في منع وجوب القطع على معنى التفاهة ، وعدم المالية لا على إباحة الجنس ; لأن ذلك موجود في الذهب ، والفضة ، والجواهر ، واللآلئ ، وغيرها ، ويقطع في الحبوب كلها ، وفي الأدهان ، والطيب كالعود ، والمسك ، وما أشبه ذلك لانعدام معنى التفاهة ، ويقطع في الكتان ، والصوف ، والخز ، ونحو ذلك ، ويقطع في جميع الأواني من الصفر ، والحديد ، والنحاس ، والرصاص ; لما قلنا ، وكذلك لو سرق النحاس نفسه أو الحديد نفسه ، أو الرصاص لعزة هذه الأشياء ، وخطرها في أنفسها : كالذهب ، والفضة ومنها أن يكون متقوما مطلقا فلا يقطع في سرقة الخمر من مسلم ، مسلما كان السارق ، أو ذميا ; لأنه لا قيمة للخمر في حق المسلم .

وكذا الذمي إذا سرق من ذمي خمرا ، أو خنزيرا لا يقطع [ ص: 70 ] لأنه - وإن كان متقوما عندهم - فليس بمتقوم عندنا ، فلم يكن متقوما على الإطلاق ، ولا يقطع في المباح الذي ليس بمملوك ، وإن كان مالا لانعدام تقومه ، والله تعالى أعلم ومنها أن يكون مملوكا في نفسه فلا يقطع في سائر المباحات التي لا يملكها أحد ، وإن كانت من نفائس الأموال : من الذهب ، والفضة ، والجواهر المستخرجة من معادنها لعدم المالك ، وعلى هذا أيضا يخرج النباش على أصل أبي حنيفة ، ومحمد أنه لا يقطع ; لأن الكفن ليس بمملوك ; لأنه لا يخلو إما أن يكون على ملك الميت ، وإما أن يكون على ملك الورثة ، لا سبيل إلى الأول ; لأن الميت ليس من أهل الملك ، ولا ، وجه للثاني ; لأن ملك الوارث مؤخر عن حاجة الميت إلى الكفن كما هو مؤخر عن الدين ، والوصية فلم يكن مملوكا أصلا .

ومنها أن لا يكون للسارق فيه ملك ، ولا تأويل الملك أو شبهته ; لأن المملوك ، أو ما فيه تأويل الملك ، أو الشبهة لا يحتاج فيه إلى مسارقة الأعين فلا يتحقق ركن السرقة ، وهو الأخذ على سبيل الاستخفاء ، والاستسرار على الإطلاق ، ولأن القطع عقوبة السرقة قال الله في آية السرقة { : جزاء بما كسبا نكالا من الله } فيستدعي كون الفعل جناية محضة ، وأخذ المملوك للسارق لا يقع جناية أصلا فالأخذ بتأويل الملك ، أو الشبهة لا يتمحض جناية فلا يوجب القطع إذا عرف هذا فنقول : لا قطع على من سرق ما أعاره من إنسان ، أو آجره منه ; لأن ملك الرقبة قائم ، ولا على من سرق رهنه من بيت المرتهن ; لأن ملك العين له .

وإنما الثابت للمرتهن حق الحبس لا غير ولو كان الرهن في يد العدل فسرقه المرتهن ، أو الراهن فلا قطع على واحد منهما ، أما الراهن فلما ذكرنا أنه ملكه فلا يجب القطع بأخذه ، وإن منع من الأخذ كما لا يجب الحد عليه بوطئه الجارية المرهونة ، وإن منع من الوطء ( وأما ) المرتهن فلأن يد العدل يده من وجه ; لأن منفعة يده عائدة إليه ; لأنه يمسكه لحقه فأشبه يد المودع ، ولا على من سرق مالا مشتركا بينه ، وبين المسروق منه ; لأن المسروق ملكهما على الشيوع ، فكان بعض المأخوذ ملكه فلا يجب القطع بأخذه ، فلا يجب بأخذ الباقي ; لأن السرقة سرقة واحدة ، ولا على من سرق من بيت المال الخمس ; لأن له فيه ملكا ، وحقا .

ولو سرق من عبده المأذون فإن لم يكن عليه دين فلا قطع ; لأن كسبه خالص ملك المولى ، وإن كان عليه دين يحيط به ، وبما في يده لا يقطع أيضا ( أما ) على أصلهما فظاهر ; لأن كسبه ملك المولى ، وعلى أصل أبي حنيفة - رحمه الله - : إن لم يكن ملكه فله فيه ضرب اختصاص يشبه الملك ألا ترى أنه يملك استخلاصه لنفسه بقضاء دينه من مال آخر ، فكان في معنى الملك ; ولهذا لو كان الكسب جارية لم يجز له أن يتزوجها فيورث شبهة ، أو نقول إذا لم يملكه المولى ، ولا المأذون يملكه أيضا ; لأنه عبد مملوك لا يقدر على شيء ، والغرماء لا يملكون أيضا فهذا مال مملوك لا مالك ، له معين فلا يجب القطع بسرقته ، كمال بيت المال ، وكمال الغنيمة .

ولو سرق من مكاتبه لم يقطع ; لأن كسب مكاتبه ملكه من ، وجه ، أو فيه شبهة الملك له ألا ترى أنه لو كان جارية لا يحل له أن يتزوجها ، والملك من وجه ، أو شبهة الملك يمنع وجوب القطع مع ما أن هذا ملك موقوف على المكاتب ، وعلى مولاه في الحقيقة ; لأنه إن أدى تبين أنه كان ملك المولى فتبين أنه أخذ مال نفسه ، وإن عجز فرد في الرق تبين أنه كان ملك المكاتب ، فكان الملك موقوفا للحال فيوجب شبهة ، فلا يجب القطع كأحد المتبايعين إذا سرق ما شرط فيه الخيار ، ولا قطع على من سرق من ، ولده ; لأن له في مال ، ولده تأويل الملك ، أو شبهة الملك لقوله عليه الصلاة والسلام { : أنت ، ومالك لأبيك } فظاهر الإضافة إليه فاللام التمليك يقتضي ثبوت الملك له من كل وجه ، إلا أنه لم يثبت لدليل ، ولا دليل في الملك من وجه فيثبت ، أو يثبت لشبهة الملك ، وكل ذلك يمنع وجوب القطع ; لأنه يورث شبهة في وجوبه .

( وأما ) السرقة من سائر ذي الرحم المحرم فلا توجب القطع أيضا لكن لفقد شرط آخر نذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى - ولو دخل لص دار رجل فأخذ ثوبا فشقه في الدار نصفين ، ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم مشقوقا يقطع في قولهما ، وقال أبو يوسف - رحمه الله - : " لا يقطع " ولو أخذ شاة فذبحها ، ثم أخرجها مذبوحة لا يقطع بالإجماع .

( وجه ) قوله : أن السارق وجد منه سبب ثبوت الملك قبل الإخراج ، وهو الشق ; لأن ذلك سبب لوجوب الضمان ، ووجوب الضمان يوجب ملك المضمون من وقت وجود السبب على أصل أصحابنا ، وذلك يمنع وجوب القطع ; ولهذا لم يقطع إذا كان المسروق شاة فذبحها ، ثم أخرجها كذا هذا ، ولهما أن السرقة تمت في ملك [ ص: 71 ] المسروق منه فيوجب القطع ، وإنما قلنا ذلك ; لأن الثوب المشقوق لا يزول عن ملكه مادام مختارا للعين ، وإنما يزول عند اختيار الضمان ، فقبل الاختيار كان الثوب على ملكه فصار سارقا ثوبين قيمتهما عشرة دراهم فيقطع ، وهكذا نقول في الشاة : إن السرقة تمت في ملك المسروق منه إلا أنها تمت في اللحم ، ولا قطع في اللحم .

وقوله : وجب الضمان عليه بالشق ، قلنا قبل الاختيار : ممنوع فإذا اختار تضمين السارق ، وسلم الثوب إليه لا يقطع ; لأنه عند اختيار الضمان ملكه من حين وجود الشق ; فتبين أنه أخرج ملك نفسه عن الحرز فلا قطع عليه ، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني - رحمه الله - أنه قال : موضوع المسألة أنه شق الثوب عرضا ، فأما لو شقه طولا فلا قطع ; لأنه بالشق طولا خرقه خرقا متفاحشا فيملكه بالضمان ، وذكر ابن سماعة أن السارق إذا خرق الثوب تخريقا مستهلكا ، وقيمته بعد تخريقه عشرة : أنه لا قطع عليه في قول أبي حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - وهذا يؤيد قول الفقيه أبي جعفر الهندواني - رحمه الله - ; لأن التخريق إذا وقع استهلاكا أوجب استقرار الضمان ، وذلك يوجب ملك المضمون .

وإذا لم يقع استهلاكا ; كان وجوب الضمان فيه موقوفا على اختيار المالك ، فلا يجب قبل الاختيار ، فلا يملك المضمون ، - والله تعالى أعلم - وعلى هذا يخرج ما إذا سرق عشرة دراهم من غريم له عليه عشرة أنه لا يقطع ; لأنه ملك المأخوذ بنفس الأخذ فصار قصاصا بحقه ، فلم يبق في حق هذا المال سارقا ، فلا يقطع ، ولو كان المسروق من خلاف جنس حقه يقطع ; لأنه لا يملكه بنفس الأخذ ، بل بالاستبدال والبيع ، فكان سارقا ملك غيره فيقطع كالأجنبي إلا إذا قال : أخذته لأجل حقي على ما نذكر ، وههنا جنس من المسائل يمكن تخريجها إلى أصل آخر هو أولى بالتخريج عليه ، وسنذكره - إن شاء الله تعالى بعد .

منها أن يكون معصوما ليس للسارق فيه حق الأخذ ، ولا تأويل الأخذ ، ولا شبهة التناول ; لأن القطع عقوبة محضة فيستدعي جناية محضة ، وأخذ غير المعصوم لا يكون جناية أصلا ، وما فيه تأويل التناول ، أو شبهة التناول لا يكون جناية محضة ، فلا تناسبه العقوبة المحضة ، ولأن ما ليس بمعصوم يؤخذ مجاهرة لا مخافتة فيتمكن الخلل في ركن السرقة ، وإذا عرف هذا فنقول : لا قطع في سائر المباحات التي لا يملكها أحد ، ولا في المباح المملوك ، وهو مال الحربي في دار الحرب .

( وأما ) مال الحربي المستأمن في دار الإسلام فلا قطع فيه استحسانا ، والقياس أن يقطع .

( وجه ) القياس أنه سرق مالا معصوما ; لأن الحربي استفاد العصمة بالأمان بمنزلة الذمي ; ولهذا كان مضمونا بالإتلاف كمال الذمي .

( وجه ) الاستحسان : أن هذا مال فيه شبهة الإباحة ; لأن الحربي المستأمن من أهل دار الحرب ، وإنما دخل دار الإسلام ليقضي بعض حوائجه ، ثم يعود عن قريب ، فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة الإباحة في ماله ; ولهذا أورث شبهة الإباحة في دمه حتى لا يقتل به المؤمن قصاصا ; ولأنه كان مباحا ، وإنما تثبت العصمة بعارض أمان هو على شرف الزوال ، فعند الزوال يظهر أن العصمة لم تكن على الأصل المعهود ، إن كل عارض على أصل ، إذا زال ; يلحق بالعدم من الأصل كأنه لم يكن فيجعل كأن العصمة لم تكن ثابتة ، بخلاف الذمي ; لأنه من أهل دار الإسلام ، قد استفاد العصمة بأمان مؤبد ، فكان معصوم الدم ، والمال عصمة مطلقة ليس فيها شبهة الإباحة .

وبخلاف ضمان المال ; لأن الشبهة لا تمنع وجوب ضمان المال لأنه حق العبد ، وحقوق العباد لا تسقط بالشبهات ، وكذا لا قطع على الحربي المستأمن في سرقة مال المسلم ، أو الذمي عند أبي حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - لأنه أخذه على اعتقاده الإباحة ، ولذا لم يلتزم أحكام الإسلام ، وعند أبي يوسف يقطع ، والخلاف فيه كالخلاف في حد الزنا ، ولا يقطع العادل في سرقة مال الباغي ; لأن ماله ليس بمعصوم في حقه كنفسه ، ولا الباغي في سرقة مال العادل ; لأنه أخذه عن تأويل ، وتأويله .

وإن كان فاسدا ، لكن التأويل الفاسد عند انضمام المنعة إليه ملحق بالتأويل الصحيح في منع وجوب القطع ; ولهذا ألحق به في حق منع وجوب القصاص والحد - والله تعالى أعلم - وعلى هذا تخرج السرقة من الغريم ، وجملة الكلام فيه : أن الأمر لا يخلو إما أن كان سرق منه من جنس حقه ، وإما إن كان سرق منه خلاف جنس حقه ، فإن سرق جنس حقه بأن سرق منه عشرة دراهم ، وله عليه عشرة فإن كان دينه عليه حالا - لا يقطع ; لأن الأخذ مباح له لأنه ظفر بجنس حقه ، ومن له الحق إذا ظفر بجنس حقه ; يباح له أخذه ، وإذا أخذه يصير مستوفيا حقه .

وكذلك إذا سرق منه أكثر من مقدار حقه ; لأن [ ص: 72 ] بعض المأخوذ حقه على الشيوع ، ولا قطع فيه ، فكذا في الباقي - كما إذا سرق مالا مشتركا - وإن كان دينه مؤجلا فالقياس أن يقطع ، وفي الاستحسان لا يقطع .

( وجه ) القياس أن الدين إذا كان مؤجلا فليس له حق الأخذ قبل حلول الأجل ألا ترى أن للغريم أن يسترده منه فصار كما لو سرقه أجنبي ( وجه ) الاستحسان : أن حق الأخذ إن لم يثبت قبل حل الأجل ; فسبب ثبوت حق الأخذ قائم ، وهو الدين ; لأن تأثير التأجيل في تأخير المطالبة لا في سقوط الدين ، فقيام سبب ثبوته يورث الشبهة .

وإن سرق خلاف جنس حقه بأن كان عليه دراهم فسرق منه دنانير ، أو عروضا قطع ، هكذا أطلق الكرخي - رحمه الله - وذكر في كتاب السرقة أنه إذا سرق العروض ، ثم قال أخذت لأجل حقي لا يقطع فيحمل مطلق قول الكرخي على المطلق ، وهو ما إذا سرق ، ولم يقل : أخذت لأجل حقي ; لأنه إذا لم يقل فقد أخذ مالا ليس له حق أخذه ألا ترى أنه لا يصير قصاصا إلا بالاستبدال ، والتراضي ، ولم يتأول الأخذ أيضا ، فكان أخذه بغير حق ، ولا شبهة حق ، وهذا يدل على أنه لا يعيد ، بخلاف قول من يقول من الفقهاء : إن لصاحب الحق إذا ظفر ، بخلاف جنس حقه أن يأخذه ; لأنه قول لم يقل به أحد من السلف فلا يعتبر خلافا مؤذنا للشبهة .

وإذا قال أخذت لأجل حقي فقد أخذه متأولا ; لأنه اعتبر المعنى ، وهي المالية لا الصورة ، والأموال كلها في معنى المالية متجانسة ، فكان أخذا عن تأويل فلا يقطع ولو أخذ صنفا من الدراهم أجود من حقه ، أو أردأ لم يقطع ; لأن المأخوذ من جنس حقه من حيث الأصل ، وإنما خالفه من حيث الوصف ألا ترى أنه لو رضي به يصير مستوفيا حقه ، ولا يكون مستبدلا حتى يجوز في الصرف والسلم ، مع أن الاستبدال ببدل الصرف ، والسلم لا يجوز ، وإذا كان المأخوذ من جنس حقه من حيث الأصل تثبت شبهة حق الأخذ فيلحق بالحقيقة في باب الحد كما في الدين المؤجل .

ولو سرق حليا من فضة ، وعليه دراهم ، أو حليا من ذهب ، وعليه دنانير يقطع ; لأن هذا لا يصير قصاصا من حقه إلا بالمراضاة ، ويكون ذلك بيعا ، واستبدالا فأشبه العروض ، وإن كان السارق قد استهلك العروض ، أو الحلي ، ووجبت عليه قيمته ، وهو مثل الذي عليه من العين فإن هذا يقطع أيضا ; لأن المقاصد إنما تقع بعد الاستهلاك فلا يوجب سوى القطع ولو سرق مكاتب ، أو عبد من غريم مولاه يقطع ; لأنه ليس له حق قبض دين المولى من غير أمره ; فصار كالأجنبي حتى لو كان المولى وكله بقبض الدين لا يقطع لثبوت حق القبض له بالوكالة ، فصار كصاحب الدين .

ولو سرق من غريم مكاتبه ، أو من غريم عبده المأذون فإن لم يكن على العبد دين لم يقطع ; لأن ذلك ملك مولاه ، فكان له حق أخذه ، وإن كان عليه دين قطع ; لأنه ليس له حق القبض ; فصار كالأجنبي ولو سرق من غريم أبيه ، أو ولده يقطع ; لأنه لا حق له فيه ، ولا في قبضه ، إلا إذا كان غريم ولده الصغير فلا يقطع ; لأن حق القبض له كما في دين نفسه ، والله تعالى أعلم .

وعلى هذا أيضا يخرج سرقة المصحف على أصل أبي حنيفة أنه لا قطع فيه ; لأن له تأويل الأخذ إذ الناس لا يضنون ببذل المصاحف الشريفة لقراءة القرآن العظيم عادة فأخذه الآخذ متأولا ، وكذلك سرقة البربط ، والطبل ، والمزمار ، وجميع آلات الملاهي ; لأن آخذها يتأول أنه يأخذها لمنع المالك عن المعصية ، ونهيه عن المنكر ، وذلك مأمور به شرعا ، وكذلك سرقة شطرنج ذهب ، أو فضة ; لما قلنا ، وكذلك سرقة صليب ، أو صنم من فضة من حرز ; لأنه يتأول أنه أخذه للكسر .

( وأما ) الدراهم التي عليها التماثيل فيقطع فيها ; لأنها لا تعبد عادة فلا تأويل له في الأخذ للمنع من العبادة فيقطع ، وعلى هذا يخرج ما إذا قطع سارق في مال ، ثم سرقه منه سارق آخر أنه لا يقطع ; لأن المسروق ليس بمعصوم في حق المسروق منه ، ولا متقوم في حقه لسقوط عصمته ، وتقومه في حقه بالقطع ، ولأن كون يد المسروق منه يدا صحيحة ; شرط وجوب القطع ، ويد السارق ليست يدا صحيحة ; لما نذكره إن شاء الله تعالى ولو سرق مالا فقطع فيه فرده إلى المالك ، ثم عاد فسرقه منه ثانيا فجملة الكلام فيه أن المردود لا يخلو : إما أن كان على حاله لم يتغير ، وإما إن أحدث المالك فيه ما يوجب تغيره ، فإن كان على حاله لم يقطع استحسانا ، والقياس أن يقطع ، وهو رواية الحسن عن أبي يوسف ، وبه أخذ الشافعي - رحمهم الله - .

( أما ) الكلام مع الشافعي - رحمه الله - فمبني على أن العصمة الثابتة للمسروق حقا للعبد قد سقطت عند السرقة الأولى لضرورة وجوب القطع على أصلنا ، وعلى أصله لم تسقط ، بل بقيت على ما كانت ، وسنذكر [ ص: 73 ] تقرير هذا الأصل في موضعه إن شاء الله تعالى

( وأما ) الكلام مع أبي يوسف ( وجه ) ما روى أن المحل وإن سقطت قيمته الثابتة حقا للمالكية في السرقة الأولى فقد عادت بالرد إلى المالك ، ألا ترى أنها عادت في حق الضمان ، حتى لو أتلفه السارق يضمن فكذا في حق القطع .

( ولنا ) أن العصمة ، وإن عادت بالرد لكن مع شبهة العدم ; لأن السقوط لضرورة وجوب القطع ، وأثر القطع قائم بعد الرد فيورث شبهة في العصمة ; ولأنه سقط تقوم المسروق في حق السارق بالقطع في السرقة الأولى ، ألا ترى أنه لو أتلفه لا يضمن .

وأثر القطع بعد الرد قائم فيورث شبهة عدم التقوم في حقه فيمنع وجوب القطع ، ولا يمنع وجوب الضمان ; لأن الضمان لا يسقط بالشبهة ; لما بينا هذا إذا كان المردود على حاله لم يتغير ( فأما ) إذا أحدث المالك فيه حدثا يوجب تغيره عن حاله ، ثم سرقه السارق الأول فالأصل فيه أنه لو فعل فيه ما لو فعله الغاصب في المغصوب لأوجب انقطاع حق المالك يقطع ، وإلا فلا ; لأنه إذا فعل ذلك فقد تبدلت العين ، وتصير في حكم عين أخرى ، وإذا لم يفعل لم تتبدل ، وعلى هذا يخرج ماإذا سرق غزلا فقطع فيه ، ورد إلى المالك فنسجه ثوبا فعاد فسرقه أنه يقطع ; لأن المسروق قد تبدل .

ألا ترى أنه لو كان مغصوبا لا يقطع حق المالك ، ولو سرق ثوب خز فقطع فيه ، ورد إلى المالك فنقضه فسرق النقض لم يقطع ; لأن العين لم تتبدل ألا ترى أنه لو فعله الغاصب لا ينقطع حق المالك ، ولو نقضه المالك ، ثم غزله غزلا ، ثم سرقه السارق لم يقطع ; لأن هذا لو وجد من الغاصب لا ينقطع حق المغصوب منه فيدل على تبدل العين ولو سرق بقرة فقطع فيها ، وردها على المالك فولدت ، ولدا ثم سرق الولد يقطع ; لأن الولد عين أخرى لم يقطع فيها فيقطع بسرقتها ، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية