بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( ومنها ) أن يكون محرزا مطلقا خاليا عن شبهة العدم مقصودا بالحرز ، والأصل في اعتبار شرط الحرز ما روي في الموطإ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا قطع في ثمر معلق ، ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح ، أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن } .

وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا قطع في ثمر ، ولا كثر حتى يؤويه الجرين ، فإذا آواه الجرين ففيه القطع } علق عليه الصلاة والسلام القطع بإيواء المراح ، والمراح حرز الإبل ، والبقر ، والغنم ، والجرين حرز الثمر فدل أن الحرز شرط ، ولأن ركن السرقة هو الأخذ على سبيل الاستخفاء ، والأخذ من غير حرز لا يحتاج إلى الاستخفاء فلا يتحقق ركن السرقة ; لأن القطع وجب لصيانة الأموال على أربابها قطعا لأطماع السراق عن أموال الناس .

والأطماع إنما تميل إلى ما له خطر في القلوب ، وغير المحرز لا خطر له في القلوب عادة ، فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى الصيانة بالقطع ، وبهذا لم يقطع فيما دون النصاب ، وما ليس بمال متقوم محتمل الادخار ، ثم الحرز نوعان : حرز بنفسه ، وحرز بغيره .

( أما ) الحرز بنفسه فهو : كل بقعة معدة للإحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بالإذن : كالدور ، والحوانيت ، والخيم ، والفساطيط ، والخزائن ، والصناديق .

( وأما ) الحرز بغيره : فكل مكان غير معد للإحراز يدخل إليه بلا إذن ، ولا يمنع منه كالمساجد ، والطرق ، وحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ .

وإن كان هناك حافظ فهو حرز ; لهذا سمي حرزا بغيره حيث وقف صيرورته حرزا على وجود غيره ، وهو الحافظ ، وما كان حرزا بنفسه لا يشترط فيه وجود الحافظ لصيرورته حرزا ، ولو وجد فلا عبرة بوجوده ، بل وجوده ، والعدم سواء ، وكل واحد من الحرزين معتبر بنفسه على حياله بدون صاحبه ; لأنه عليه الصلاة والسلام علق القطع بإيواء المراح ، والجرين من غير شرط وجود الحافظ .

وروي أن { صفوان رضي الله عنه كان نائما في المسجد متوسدا بردائه فسرقه سارق من تحت رأسه فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر الحرز بنفسه } فدل أن كل واحد من نوعي الحرز معتبر بنفسه ، فإذا سرق من النوع الأول يقطع سواء كان ثمة حافظ ، أو لا لوجود الأخذ من الحرز .

وسواء كان مغلق الباب ، أو لا باب له بعد أن كان محجوزا بالبناء ; لأن البناء يقصد به الإحراز كيف ما كان ، وإذا سرق من النوع الثاني يقطع إذا كان الحافظ قريبا منه في مكان يمكنه حفظه ، ويحفظ في مثله المسروق عادة ، وسواء كان الحافظ مستيقظا في ذلك المكان ، أو نائما ; لأن الإنسان يقصد الحفظ في الحالين جميعا ، ولا يمكن الأخذ إلا بفعله ، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارق صفوان ، وصفوان كان نائما ولو أذن لإنسان بالدخول في داره فسرق المأذون له بالدخول شيئا منها لم يقطع [ ص: 74 ] وإن كان فيها حافظ ، أو كان صاحب المنزل نائما عليه ; لأن الدار حرز بنفسها لا بالحافظ ، وقد خرجت من أن تكون حرزا بالإذن فلا يعتبر وجود الحافظ ; ولأنه لما أذن له بالدخول فقد صار في حكم أهل الدار .

فإذا أخذ شيئا فهو خائن قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : لا قطع على خائن } ، وكذلك لو سرق من بعض بيوت الدار المأذون في دخولها ، وهو مقفل ، أو من صندوق في الدار ، أو من صندوق في بعض البيوت ، وهو مقفل عليه إذا كان البيت من جملة الدار المأذون في دخولها ; لأن الدار الواحدة حرز واحد قد خرجت بالإذن له من أن تكون حرزا في حقه فكذلك بيوتها ، وما روي أن أسود بات عند سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فسرق حليا لهم فيحتمل أن يكون مسروقا من دار النساء لا من دار الرجال ، والداران المختلفان إذا أذن بالدخول في إحداهما لا تصير الأخرى مأذونا بالدخول فيها ، والمحتمل لا يكون حجة .

وروي عن أبي يوسف أنه قال في رجل كان في حمام ، أو خان ، وثيابه تحت رأسه فسرقها سارق : إنه لا قطع عليه ، سواء كان نائما أو يقظانا ، وإن كان في صحراء ، وثوبه تحت رأسه قطع ، وكذلك روي عن محمد في رجل سرق من رجل ، وهو معه في الحمام ، أو سرق من رجل ، وهو معه في سفينة ، أو نزل قوم في خان فسرق بعضهم من بعض أنه لا قطع على السارق ، وكذلك الحانوت ; لأن الحمام ، والخان ، والحانوت كل واحد حرز بنفسه ، فإذا أذن للناس في دخوله خرج من أن يكون حرزا فلا يعتبر فيه الحافظ فلا يصير حرزا بالحافظ ; ولهذا قالوا : إذا سرق من الحمام ليلا يقطع ; لأن الناس لم يؤذنوا بالدخول فيه ليلا فأما الصحراء ، أو المسجد - وإن كان مأذون الدخول إليه - فليس حرزا بنفسه ، بل بالحافظ ، ولم يوجد الإذن من الحافظ فلا يبطل معنى الحرز فيه .

وقالوا في السارق من المسجد : إذا كان ثمة حافظ يقطع ، وإن لم يخرج من المسجد ; لأن المسجد ليس بحرز بنفسه ، بل بالحافظ ، فكانت البقعة التي فيها الحافظ هي الحرز لا كل المسجد فإذا انفصل منها فقد انفصل من الحرز فيقطع .

( فأما ) الدار ، فإنما صارت حرزا بالبناء ، فما لم يخرج منها لم يوجد الانفصال من الحرز ، وروي عن محمد في رجل سرق في السوق من حانوت فتخرب الحانوت ، وقعد للبيع ، وأذن للناس بالدخول فيه أنه لم يقطع ، وكذلك لو سرق منه ، وهو مغلق على شيء لم يقطع لأنه لما أذن للناس بالدخول فيه فقد أخرج الحانوت من أن يكون حرزا في حقهم ، وكذلك إن أخذ من بيت قبة ، أو صندوق فيه مقفل ; لأن الحانوت كله حرز واحد كالدار على ما مر .

وروي عن أبي يوسف - رحمه الله - أنه قال في رجل بأرض فلاة ، ومعه جوالق وضعه ، ونام عنده يحفظه فسرق منه رجل شيئا ، أو سرق الجوالق : فإني أقطعه ; لأن الجوالق بما فيها محرز بالحافظ فيستوي أخذ جميعه ، وأخذ بعضه ، وكذلك إذا سرق فسطاطا ملفوفا قد ، وضعه ، ونام عنده يحفظه أنه يقطع ، وإن كان مضروبا لم يقطع ; لأنه إذا كان ملفوفا كان محرزا بالحافظ كالباب المقلوع إذا كان في الدار فسرقه سارق ، وإذا كان الفسطاط مضروبا كان حرزا بنفسه فإذا سرقه فقد سرق نفس الحرز ، ونفس الحرز ليس في الحرز فلا يقطع كسارق باب الدار ولو كان الجوالق على ظهر دابة فشق الجوالق ، وأخرج المتاع يقطع ; لأن الجوالق حرز ; لما فيه .

وإن أخذ الجوالق كما هي لم يقطع ; لأنه أخذ نفس الحرز ، وكذلك إذا سرق الجمل مع الجوالق ; لأن الحمل لا يوضع على الجمل للحفظ ، بل للحمل ; لأن الجمل ليس بمحرز ، وإن ركبه صاحبه فلم يكن الجمل حرزا للجوالق فإذا أخذ الجوالق فقد أخذ نفس الحرز ولو سرق من المراعي بعيرا ، أو بقرة ، أو شاة لم يقطع سواء كان الراعي معها ، أو لم يكن ، وإن سرق من العطن ، أو المراح الذي يأوي إليه يقطع إذا كان معها حافظ ، أو ليس معها حافظ ، غير أن الباب مغلق فكسر الباب ، ثم دخل فسرق بقرة قادها قودا حتى أخرجها أو ساقها سوقا حتى أخرجها ، أو ركبها حتى أخرجها ; لأن المراعي ليست بحرز للمواشي .

وإن كان الراعي معها ; لأن الحفظ لا يكون مقصودا من الرعي ، وإن كان قد يحصل به ; لأن المواشي لا تجعل في مراعيها للحفظ ، بل للرعي فلم يوجد الأخذ من حرز ، بخلاف العطن ، أو المراح فإن ذلك يقصد به الحفظ ، ووضع له ، فكان حرزا ، وقال عليه الصلاة والسلام { : في حريسة الجبل غرامة مثليها ، وجلدات نكالا } فإذا أواها المراح ، وبلغت قيمتها ثمن المجن ففيها القطع ، والله تعالى أعلم ، ولا يقطع عبد في سرقة من مولاه مكاتبا كان العبد ، أو مدبرا ، أو تاجرا عليه دين ، أو أم ولد سرقت من مال مولاها ; لأن هؤلاء مأذونون بالدخول في بيوت ساداتهم للخدمة فلم [ ص: 75 ] يكن بيت مولاهم حرزا في حقهم .

وذكر في الموطأ أن عبد الله ابن - سيدنا - عمر ، والحضرمي جاءا إلى عمر رضي الله عنه بعبد له فقال : اقطع هذا فإنه سرق فقال : وما سرق قال : مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهما فقال - سيدنا - عمر رضي الله عنه : أرسله ليس عليه قطع ، خادمكم سرق متاعكم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر ; فيكون إجماعا ، ولا قطع على خادم قوم سرق متاعهم ، ولا على ضيف سرق متاع من أضافه ، ولا على أجير سرق من موضع أذن له في دخوله ; لأن الإذن بالدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزا في حقه ، وكذا الأجير إذا أخذ المتاع المأذون له في أخذه من موضع لم يأذن له بالدخول فيه لم يقطع ; لأن الإذن بأخذ المتاع يورث شبهة الدخول في الحرز ، ولأن الإذن بالأخذ فوق الإذن بالدخول ، وذا يمنع القطع فهذا أولى .

ولو سرق المستأجر من المؤاجر ، وكل واحد منهما في منزل على حدة يقطع بلا خلاف ; لأنه لا شبهة في الحرز .

وأما المؤاجر إذا سرق من المستأجر فكذلك يقطع في قول أبي حنيفة - عليه الرحمة - وعندهما لا يقطع .

( وجه ) قولهما : أن الحرز ملك السارق فيورث شبهة في درء الحد ; لأنه يورث شبهة في إباحة الدخول فيختل الحرز فلا قطع .

( وجه ) قول أبي حنيفة : أن معنى الحرز لا تعلق له بالملك إذ هو اسم لمكان معد للإحراز يمنع من الدخول فيه إلا بالإذن ، قد وجد ; لأن المؤاجر ممنوع عن الدخول في المنزل المستأجر من غير إذن فأشبه الأجنبي .

ولا قطع على من سرق من ذي رحم محرم عندنا سواء كان بينهما ولاد ، أو لا ، وقال الشافعي : في الوالدين ، والمولودين كذلك فأما في غيرهم فيقطع ، وهو على اختلاف العتق ، والنفقة ، قد ذكرنا المسألة في كتاب العتاق ، والصحيح قولنا ; لأن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه بغير إذن عادة ، وذلك دلالة الإذن من صاحبه فاختل معنى الحرز ، ولأن القطع بسبب السرقة فعل يفضي إلى قطع الرحم .

وذلك حرام ، والمفضي إلى الحرام حرام ولو سرق جماعة فيهم ذو رحم محرم من المسروق لا يقطع واحد منهم عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف لا يقطع ذو الرحم المحرم ، ويقطع سواه ، والكلام على نحو الكلام فيما تقدم فيما إذا كان فيهم صبي ، أو مجنون ، قد ذكرناه فيما تقدم ولو سرق من ذي رحم غير محرم يقطع بالإجماع ; لأن المباسطة بالدخول من غير استئذان غير ثابتة في هذه القرابة عادة ، وكذا هذه القرابة لا تجب صيانتها عن القطيعة ; ولهذا لم يجب في العتق ، والنفقة ، وغير ذلك .

ولو سرق من ذي محرم لا رحم له بسبب الرضاع فقد قال أبو حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - يقطع الذي سرق ممن يحرم عليه من الرضاع كائنا من كان ، وقال أبو يوسف إذا سرق من أمه من الرضاع لا يقطع .

( وجه ) قوله : أن المباسطة بينهما في الدخول ثابتة عرفا ، وعادة فإن الإنسان يدخل في منزل أمه من الرضاع من غير إذن كما يدخل في منزل أمه من النسب ، بخلاف الأخت من الرضاع ، ولهما أن الثابت بالرضاع ليس إلا الحرمة المؤبدة ، وأنها لا تمنع وجوب القطع كما لو سرق من أم موطوءته ; ولهذا يقطع في الأخت من الرضاع ولو سرق من امرأة أبيه ، أو من زوج أمه ، أو من حليلة ابنه ، أو من ابن امرأته أو بنتها ، أو أمها ينظر إن سرق مالهم من منزل من يضاف السارق إليه من أبيه ، وأمه ، وابنه ، وامرأته لا يقطع بلا خلاف ; لأنه مأذون بالدخول في منزل هؤلاء فلم يكن المنزل حرزا في حقه .

وإن سرق من منزل آخر فإن كانا فيه لم يقطع بالإجماع ، وإن كان لكل واحد منهما منزل على حدة اختلف فيه : قال أبو حنيفة - عليه الرحمة - : لا يقطع ، وقال أبو يوسف : يقطع إذا سرق من غير منزل السارق ، أو منزل أبيه أو ابنه ، وذكر القاضي في شرح مختصر الطحاوي قول محمد مع قول أبي يوسف - رحمهم الله - ( وجه ) قولهما : أن المانع هو القرابة ، ولا قرابة بين السارق ، وبين المسروق ، بل كل واحد منهما أجنبي عن صاحبه فلا يمنع وجوب القطع ، كما لو سرق من أجنبي آخر .

( وجه ) قول أبي حنيفة : أن في الحرز شبهة ; لأن حق التزاور ثابت بينه ، وبين قريبه ; لأن كون المنزل لغير قريبه لا يقطع التزاور ، وهذا يورث شبهة إباحة الدخول للزيارة فيختل معنى الحرز ، ولا قطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه سواء سرق من البيت الذي هما فيه ، أو من بيت آخر ; لأن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه ، وينتفع بماله عادة ، وذلك يوجب خللا في الحرز ، وفي الملك أيضا ، وهذا عندنا ، وقال الشافعي - رحمه الله - : إذا سرق من البيت الذي هما فيه لا يقطع ، وإن سرق من بيت آخر يقطع ، والمسألة مرت في كتاب الشهادة .

وكذلك لو سرق أحد الزوجين من عبد صاحبه ، أو أمته ، أو مكاتبه ، أو سرق عبد أحدهما ، أو أمته ، أو مكاتبه من صاحبه [ ص: 76 ] أو سرق خادم أحدهما من صاحبه لا يقطع ; لأنه مأذون في الدخول في الحرز ولو سرقت امرأة من زوجها ، أو سرق رجل من امرأته ، ثم طلقها قبل الدخول بها فبانت بغير عدة لم يقطع واحد منهما ; لأن الأخذ حين ، وجوده لم ينعقد موجبا للقطع لقيام الزوجية فلا ينعقد عند الإبانة ; لأن الإبانة طارئة ، والأصل أن لا يعتبر الطارئ مقارنا في الحكم ; لما فيه من مخالفة الحقيقة إلا إذا كان في الاعتبار إسقاط الحد وقت الاعتبار وفي الاعتبار ههنا إيجاب الحد فلا يعتبر ولو سرق من مطلقته ، وهي في العدة ، أو سرقت مطلقته ، وهي في العدة لم يقطع واحد منهما سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا ، أو ثلاثا ; لأن النكاح في حال قيام العدة قائم من وجه أو أثره قائم ، وهو العدة ، وقيام النكاح من كل وجه يمنع القطع فقيامه من وجه ، أو قيام أثره يورث شبهة .

ولو سرق رجل من امرأة أجنبية ، ثم تزوجها فهذا لا يخلو من أحد ، وجهين : ( إما ) أن تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع ، وإما أن تزوجها بعدما قضي عليه بالقطع فإن تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع ; لم يقطع بلا خلاف ; لأن هذا مانع طرأ على الحد ، والمانع الطارئ في الحد كالمقارن ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات فيصير طريان الزوجية شبهة مانعة من القطع كقرانها ، وإن تزوجها بعد ما قضي بالقطع لم يقطع عند أبي حنيفة - رحمه الله - وقال أبو يوسف : يقطع .

( وجه ) قوله : أن الزوجية القائمة عند السرقة إنما تمنع وجوب القطع باعتبار الشبهة ، وهي شبهة عدم الحرز ، أو شبهة الملك فالطارئة لو اعتبرت مانعة لكان ذلك اعتبار الشبهة ، وإنها ساقطة في باب الحدود .

( وجه ) قول أبي حنيفة : أن الإمضاء في باب الحدود من القضاء فكانت الشبهة المعترضة على الإمضاء كالمعترضة على القضاء ألا ترى أنه لو قذف رجلا بالزنا ، وقضي عليه بالحد ، ثم إن المقذوف زنى قبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن القاذف ، وجعل الزنا المعترض على الحد كالموجود عند القذف ليعلم أن الطارئ على الحدود قبل الإمضاء بمنزلة الموجود قبل القضاء ، والله تعالى أعلم .

وذكر في الجامع الصغير في الطرار إذا طر الصرة من خارج الكم أنه لا قطع عند أبي حنيفة - رحمه الله - فإن أدخل يده في الكم فطرها ; يقطع ، وقال أبو يوسف هذا كله سواء ، ويقطع ، وبتفصيل الكلام فيه يرتفع الخلاف ، ويتفق الجواب ، وهو أن الطر لا يخلو إما أن يكون بالقطع ، وإما أن يكون بحل الرباط ، والدراهم لا تخلو إما أن كانت مصرورة على ظاهر الكم ، وإما أن كانت مصرورة في باطنه ، فإن كان الطر بالقطع ، والدراهم مصرورة على ظاهر الكم لم يقطع ; لأن الحرز هو الكم .

والدراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكم فلم يوجد الأخذ من الحرز ، وعليه يحمل قول أبي حنيفة - رحمه الله - وإن كانت مصرورة في داخل الكم يقطع ; لأنها بعد القطع تقع في داخل الكم ، فكان الطر أخذا من الحرز ، وهو الكم فيقطع ، وعليه يحمل قول أبي يوسف ، وإن كان الطر بحل الرباط ينظر إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم بأن كانت العقدة مشدودة من داخل الكم لا يقطع ; لأنه أخذها من غير حرز ، وهو تفسير قول أبي حنيفة - رحمه الله - وإن كان إذا حل تقع الدراهم في داخل الكم ، وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكم للأخذ يقطع لوجود الأخذ من الحرز ، وهو تفسير قول أبي يوسف ، والله تعالى أعلم .

وعلى هذا الأصل أيضا يخرج النباش على أصل أبي حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - أنه لا يقطع ; لأن القبر ليس بحرز بنفسه أصلا إذ لا تحفظ الأموال فيه عادة ألا ترى أنه لو سرق منه الدراهم ، والدنانير لا يقطع ، ولا حافظ للكفن ليجعل حرزا بالحافظ فلم يكن القبر حرزا بنفسه ، ولا بغيره ، أو فيه شبهة عدم الحرز ; لأنه إن كان حرز مثله فليس حرزا لسائر الأموال فتمكنت الشبهة في كونه حرزا فلا يقطع ، ثم اختلف أنه يعتبر في كل شيء حرز مثله ، أو حرز نوعه قال بعض مشايخنا إنه : يعتبر في كل شيء حرز مثله كالإصطبل للدابة ، والحظيرة للشاة حق لو سرق اللؤلؤة من هذه المواضع لا يقطع .

وذكر الكرخي في مختصره عن أصحابنا أن ما كان حرز النوع يكون حرزا للأنواع كلها ، وجعلوا سريجة البقال حرزا للجواهر فالطحاوي - رحمه الله - اعتبر العرف ، والعادة ، وقال : حرز الشيء هو المكان الذي يحفظ فيه عادة ، والناس في العادات لا يحرزون الجواهر في الإصطبل ، والكرخي - رحمه الله - اعتبر الحقيقة ; لأن حرز الشيء ما يحرز ذلك الشيء حقيقة ، وسريجة البقال تحرز الدراهم ، والدنانير ، والجواهر حقيقة ، فكانت حرزا لها ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية