بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان من يحل قتله من الكفرة ومن لا يحل ، فنقول : الحال لا يخلو إما أن يكون حال القتال ، أو حال ما بعد الفراغ من القتال ، وهي ما بعد الأخذ والأسر ، أما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة ولا صبي ، ولا شيخ فان ، ولا مقعد ولا يابس الشق ، ولا أعمى ، ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف ، ولا مقطوع اليد اليمنى ، ولا معتوه ، ولا راهب في صومعة ، ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس ، وقوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب ، أما المرأة والصبي ، فلقول النبي عليه الصلاة والسلام { لا تقتلوا امرأة ولا وليدا } وروي أنه عليه الصلاة والسلام رأى في بعض غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك وقال عليه الصلاة والسلام : { هاه ما أراها قاتلت ، فلم قتلت ؟ ونهى عن قتل النساء والصبيان ، } ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال ، فلا يقتلون ، ولو قاتل واحد منهم قتل ، وكذا لو حرض على القتال ، أو دل على عورات المسلمين ، أو كان الكفرة ينتفعون برأيه ، أو كان مطاعا ، وإن كان امرأة أو صغيرا ; لوجود القتال من حيث المعنى .

وقد روي { أن ربيعة بن رفيع السلمي رضي الله عنه أدرك دريد بن الصمة يوم حنين ، فقتله وهو شيخ كبير كالقفة ، لا ينفع إلا برأيه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه ، } والأصل فيه أن كل من كان من أهل القتال يحل قتله ، سواء قاتل أو لم يقاتل ، وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض ، وأشباه ذلك على ما ذكرنا ، فيقتل القسيس والسياح الذي يخالط الناس ، والذي يجن ويفيق ، والأصم والأخرس ، وأقطع اليد اليسرى ، وأقطع إحدى الرجلين ، وإن لم يقاتلوا ; لأنهم من أهل القتال ، ولو قتل واحد ممن ذكرنا أنه لا يحل قتله فلا شيء فيه من دية ولا كفارة ، إلا التوبة والاستغفار ; لأن دم الكافر لا يتقوم إلا بالأمان ولم يوجد وأما حال ما بعد الفراغ من القتال ، وهي ما بعد الأسر والأخذ ، فكل من لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله بعد الفراغ من القتال ، وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل حقيقة أو معنى ، يباح قتله بعد الأخذ والأسر إلا الصبي ، والمعتوه الذي لا يعقل ، فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتلا حقيقة ومعنى ، ولا يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال إذا أسرا ، وإن قتلا جماعة من المسلمين في القتال ; لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة ، وهما ليسا من أهل العقوبة ، فأما القتل في حالة القتال فلدفع شر القتال ، وقد وجد الشر منهما فأبيح قتلهما لدفع الشر ، وقد انعدم الشر بالأسر ، فكان القتل بعده بطريق العقوبة ، وهما ليسا من أهلها والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ويكره للمسلم أن يبتدئ أباه الكافر الحربي بالقتل ; لقوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } أمر - سبحانه وتعالى - بمصاحبة الأبوين الكافرين بالمعروف ، والابتداء بالقتل ليس من المصاحبة بالمعروف .

وروي { أن حنظلة رضي الله عنه غسيل الملائكة عليهم الصلاة والسلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه ، فنهاه عليه الصلاة والسلام } ولأن الشرع أمر بإحيائه بالنفقة عليه ، فالأمر بالقتل فيه إفناؤه ، يكون متناقضا فإن قصد الأب قتله ، يدفعه عن [ ص: 102 ] نفسه ، وإن أتى ذلك على نفسه ولا يكره ذلك ; لأنه من ضرورات الدفع ، ولكن لا يقصد بالدفع القتل ; لأنه لا ضرورة إلى القصد والله - تعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية