بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) بيان ما يؤخذ به أهل الذمة ، وما يتعرض له وما لا يتعرض فنقول - وبالله التوفيق : إن أهل الذمة يؤخذون بإظهار علامات يعرفون بها ، ولا يتركون يتشبهون بالمسلمين في لباسهم ومركبهم وهيئتهم ، فيؤخذ الذمي بأن يجعل على وسطه كشحا مثل الخيط الغليظ ، ويلبس قلنسوة طويلة مضروبة ويركب سرجا على قربوسه مثل الرمانة ، ولا يلبس طيلسانا مثل طيالسة المسلمين ورداء مثل أردية المسلمين ، والأصل فيه ما روي أن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - مر على رجال ركوب ذوي هيئة فظنهم مسلمين فسلم عليهم ، فقال له رجل من أصحابه : أصلحك الله ، تدري من هؤلاء ؟ فقال : من هم ؟ فقال : هؤلاء نصارى بني تغلب فلما أتى منزله أمر أن ينادي في الناس أن لا يبقى نصراني إلا عقد ناصيته ، وركب الإكاف .

ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد فيكون كالإجماع ، ولأن السلام من شعائر الإسلام فيحتاج المسلمون إلى إظهار هذه الشعائر عند الالتقاء ، ولا يمكنهم ذلك إلا بتمييز أهل الذمة بالعلامة ، ولأن في إظهار هذه العلامات إظهار آثار الذلة عليهم ، وفيه صيانة عقائد ضعفة المسلمين عن التغيير على ما قال - سبحانه وتعالى - { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } وكذا يجب أن يتميز نساؤهم عن نساء المسلمين في حال المشي في الطريق ، ويجب التمييز في الحمامات في الأزر ، فيخالف أزرهم أزر المسلمين لما قلنا ، وكذا يجب أن تميز الدور بعلامات تعرف بها دورهم من دور المسلمين ; ليعرف السائل المسلم أنها دور الكفرة ، فلا يدعو لهم بالمغفرة ، ويتركون أن يسكنوا في أمصار المسلمين يبيعون ويشترون ; لأن عقد الذمة شرع ليكون وسيلة لهم إلى الإسلام ، وتمكينهم من المقام في أمصار المسلمين أبلغ إلى هذا المقصود .

وفيه أيضا منفعة المسلمين بالبيع والشراء ، فيمكنون من ذلك ولا يمكنون من بيع الخمور والخنازير فيها ظاهرا ; لأن حرمة الخمر والخنزير ثابتة في حقهم كما هي ثابتة في حق المسلمين ; لأنهم مخاطبون بالحرمات وهو الصحيح عند أهل الأصول على ما عرف في موضعه ، فكان إظهار بيع الخمر والخنزير منهم إظهارا للفسق فيمنعون من ذلك .

وعندهم : أن ذلك مباح فكان إظهار شعائر الكفر في مكان معد لإظهار شعائر الإسلام ، وهو أمصار المسلمين فيمنعون من ذلك وكذا يمنعون من إدخالها في أمصار المسلمين ظاهرا وروي عن أبي يوسف : إني لا أمنعهم من إدخال الخنازير فرق بين الخمر والخنزير لما في الخمر من خوف وقوع المسلم فيها ولا يتوهم ذلك في الخنزير .

ولا يمكنون من إظهار صليبهم في عيدهم ; لأنه إظهار شعائر الكفر ، فلا يمكنون من ذلك في أمصار المسلمين ، ولو فعلوا ذلك في كنائسهم لا يتعرض لهم وكذا لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرض لذلك ; لأن إظهار الشعائر لم يتحقق ، فإن ضربوا به خارجا منها لم يمكنوا منه لما فيه من إظهار الشعائر ، ولا يمنعون من إظهار شيء مما ذكرنا من بيع الخمر والخنزير ، والصليب ، وضرب الناقوس في قرية ، أو موضع ليس من أمصار المسلمين ، ولو كان فيه عدد كثير من أهل الإسلام وإنما يكره ذلك في أمصار المسلمين ، وهي التي يقام فيها الجمع والأعياد والحدود ; لأن المنع من إظهار هذه الأشياء ; لكونه إظهار شعائر الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام ، فيختص المنع بالمكان المعد لإظهار الشعائر وهو المصر الجامع .

( وأما ) إظهار فسق يعتقدون حرمته كالزنا وسائر الفواحش التي هي حرام في دينهم ، فإنهم يمنعون من ذلك سواء كانوا في أمصار المسلمين ، أو في أمصارهم [ ص: 114 ] ومدائنهم وقراهم ، وكذا المزامير والعيدان ، والطبول في الغناء ، واللعب بالحمام ، ونظيرها ، يمنعون من ذلك كله في الأمصار والقرى ; لأنهم يعتقدون حرمة هذه الأفعال كما نعتقدها نحن فلم تكن مستثناة عن عقد الذمة ليقروا عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية