بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) الكنائس والبيع القديمة فلا يتعرض لها ولا يهدم شيء منها .

( وأما ) إحداث كنيسة أخرى فيمنعون عنه فيما صار مصرا من أمصار المسلمين ; لقوله عليه الصلاة والسلام { : لا كنيسة في الإسلام إلا في دار الإسلام } .

ولو انهدمت كنيسة فلهم أن يبنوها كما كانت ; لأن لهذا البناء حكم البقاء ، ولهم أن يستبقوها فلهم أن يبنوها ، وليس لهم أن يحولوها من موضع إلى موضع آخر ; لأن التحويل من موضع إلى موضع آخر في حكم إحداث كنيسة أخرى .

( وأما ) في القرى أو في موضع ليس من أمصار المسلمين فلا يمنعون من إحداث الكنائس والبيع ، كما لا يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير لما بينا ولو ظهر الإمام على قوم من أهل الحرب فرأى أن يجعلهم ذمة ، ويضع على رءوسهم الجزية .

وعلى أراضيهم الخراج ، لا يمنعون من اتخاذ الكنائس والبيع ، وإظهار بيع الخمر والخنزير ; لأن الممنوع إظهار شعائر الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام ، وهو أمصار المسلمين ، ولم يوجد بخلاف ما إذا صاروا ذمة بالصلح ، بأن طلب قوم من أهل الحرب منا أن يصيروا ذمة يؤدون عن رقابهم وأراضيهم شيئا معلوما ، ونجري عليهم أحكام الإسلام فصالحناهم على ذلك ، فكانت أراضيهم مثل أراضي الشام مدائن وقرى ، ورساتيق وأمصارا ، إنه لا يتعرض لكنائسهم القديمة ، ولكنهم لو أرادوا أن يحدثوا شيئا منها يمنعوا من ذلك ; لأنها صارت مصرا من أمصار المسلمين .

وإحداث الكنيسة في مصر من أمصار المسلمين ممنوع عنه شرعا فإن مصر الإمام مصرا للمسلمين ، كما مصر سيدنا عمر رضي الله عنه الكوفة والبصرة ، فاشترى قوم من أهل الذمة دورا ، وأرادوا أن يتخذوا فيها كنائس لا يمكنوا من ذلك لما قلنا ، وكذلك لو تخلى رجل في صومعته منع من ذلك ; لأن ذلك في معنى اتخاذ الكنيسة ، وكل مصر من أمصار المشركين ظهر عليه الإمام عنوة ، وجعلهم ذمة فما كان فيه كنيسة قديمة منعهم من الصلاة في تلك الكنائس ; لأنه لما فتح عنوة فقد استحقه المسلمون ، فيمنعهم من الصلاة فيها ، ويأمرهم أن يتخذوها مساكن ، ولا ينبغي أن يهدمها وكذلك كل قرية جعلها الإمام مصرا ، ولو عطل الإمام هذا المصر وتركوا إقامة الجمع والأعياد والحدود فيه ، كان لأهل القرية أن يحدثوا ما شاءوا ; لأنه عاد قرية كما كانت نصرانية تحت مسلم لا يمكنها من نصب الصليب في بيته ; لأن نصب الصليب كنصب الصنم ، وتصلي في بيته حيث شاءت هذا الذي ذكرنا حكم أرض العجم .

( وأما ) أرض العرب فلا يترك فيها كنيسة ، ولا بيعة ولا يباع فيها الخمر والخنزير مصرا كان أو قرية ، أو ماء من مياه العرب ، ويمنع المشركون أن يتخذوا أرض العرب مسكنا ووطنا كذا ذكره محمد تفضيلا لأرض العرب على غيرها ، وتطهيرا لها عن الدين الباطل قال عليه الصلاة والسلام { : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } .

وأما الالتجاء إلى الحرم فإن الحربي إذا التجأ إلى الحرم ، لا يباح قتله في الحرم ، ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا يؤوى ، ولا يبايع حتى يخرج من الحرم وعند الشافعي - رحمه الله : يقتل في الحرم أصحابنا فيما بينهم قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله : لا يقتل في الحرم ، ولا يخرج منه أيضا وقال أبو يوسف - رحمه الله : لا يباح قتله في الحرم ، ولكن يباح إخراجه من الحرم للشافعي - رحمه الله قوله تبارك وتعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وحيث يعبر به عن المكان ، فكان هذا إباحة لقتل المشركين في الأماكن كلها .

( ولنا ) قوله - تبارك وتعالى - { أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } إذا دخل ملتجئا ، أما إذا دخل مكابرا أو مقاتلا يقتل ; لقوله تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ولأنه لما دخل مقاتلا فقد هتك حرمة الحرم ، فيقتل تلافيا للهتك زجرا لغيره عن الهتك وكذلك لو دخل قوم من أهل الحرب للقتال ، فإنهم يقتلون ، ولو انهزموا من المسلمين فلا شيء على المسلمين في قتلهم وأسرهم والله - تعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية