بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) .

وأما بيان الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين ، فنقول : لا بد أولا من معرفة معنى الدارين ، دار الإسلام ودار الكفر ; لتعرف الأحكام التي تختلف باختلافهما ، ومعرفة ذلك مبنية على معرفة ما به ، تصير الدار دار إسلام أو دار كفر فنقول : لا خلاف بين أصحابنا في أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها واختلفوا في دار الإسلام ، إنها بماذا تصير دار الكفر ؟ قال أبو حنيفة : إنها لا تصير دار الكفر إلا بثلاث شرائط ، أحدها : ظهور أحكام الكفر فيها والثاني : أن تكون متاخمة لدار الكفر والثالث : أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول ، وهو أمان المسلمين .

وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله : إنها تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها .

( وجه ) قولهما أن قولنا دار الإسلام ودار الكفر إضافة دار إلى الإسلام وإلى الكفر ، وإنما تضاف الدار إلى الإسلام أو إلى الكفر [ ص: 131 ] لظهور الإسلام أو الكفر فيها ، كما تسمى الجنة دار السلام ، والنار دار البوار ; لوجود السلامة في الجنة ، والبوار في النار وظهور الإسلام والكفر بظهور أحكامهما ، فإذا ظهر أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر فصحت الإضافة ، ولهذا صارت الدار دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها من غير شريطة أخرى ، فكذا تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

( وجه ) قول أبي حنيفة - رحمه الله - أن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام والكفر ليس هو عين الإسلام والكفر ، وإنما المقصود هو الأمن والخوف .

ومعناه أن الأمان إن كان للمسلمين فيها على الإطلاق ، والخوف للكفرة على الإطلاق ، فهي دار الإسلام ، وإن كان الأمان فيها للكفرة على الإطلاق ، والخوف للمسلمين على الإطلاق ، فهي دار الكفر والأحكام مبنية على الأمان والخوف لا على الإسلام والكفر ، فكان اعتبار الأمان والخوف أولى ، فما لم تقع الحاجة للمسلمين إلى الاستئمان بقي الأمن الثابت فيها على الإطلاق ، فلا تصير دار الكفر ، وكذا الأمن الثابت على الإطلاق لا يزول إلا بالمتاخمة لدار الحرب ، فتوقف صيرورتها دار الحرب على وجودهما مع أن إضافة الدار إلى الإسلام احتمل أن يكون لما قلتم ، واحتمل أن يكون لما قلنا ، وهو ثبوت الأمن فيها على الإطلاق للمسلمين وإنما يثبت للكفرة بعارض الذمة والاستئمان ، فإن كانت الإضافة لما قلتم تصير دار الكفر بما قلتم .

وإن كانت الإضافة لما قلنا لا تصير دار الكفر إلا بما قلنا ، فلا تصير ما به دار الإسلام بيقين دار الكفر بالشك والاحتمال على الأصل المعهود أن الثابت بيقين لا يزول بالشك والاحتمال ، بخلاف دار الكفر حيث تصير دار الإسلام ; لظهور أحكام الإسلام فيها ; لأن هناك الترجيح لجانب الإسلام ; لقوله عليه الصلاة والسلام { الإسلام يعلو ولا يعلى } فزال الشك على أن الإضافة إن كانت باعتبار ظهور الأحكام ، لكن لا تظهر أحكام الكفر إلا عند وجود هذين الشرطين - أعني المتاخمة وزوال الأمان الأول - لأنها لا تظهر إلا بالمنعة ، ولا منعة إلا بهما والله - سبحانه وتعالى - أعلم وقياس هذا الاختلاف في أرض لأهل الإسلام ظهر عليها المشركون ، وأظهروا فيها أحكام الكفر ، أو كان أهلها أهل ذمة فنقضوا الذمة .

وأظهروا أحكام الشرك ، هل تصير دار الحرب ؟ فهو على ما ذكرنا من الاختلاف ، فإذا صارت دار الحرب فحكمها إذا ظهرنا عليها ، وحكم سائر دور الحرب سواء ، وقد ذكرناه ولو فتحها الإمام ثم جاء أربابها ، فإن كان قبل القسمة أخذوا بغير شيء ، وإن كان بعد القسمة أخذوا بالقيمة إن شاءوا لما ذكرنا من قبل وعاد المأخوذ على حكمه الأول الخراجي عاد خراجيا ، والعشري عاد عشريا ; لأن هذا ليس استحداث الملك ، بل هو عود قديم الملك إليه ، فيعود بوظيفته إلا إذا كان الإمام وضع عليها الخراج قبل ذلك ، فلا يعود عشريا ; لأن تصرف الإمام صدر عن ولاية شرعية ، فلا يحتمل النقض والله - تعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية