بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يملكه المولى من التصرف في المأذون وكسبه ، وما لا يملك وبيان حكم تصرفه .

فنقول - وبالله التوفيق - إن المولى يملك إعتاق عبده المأذون سواء لم يكن عليه دين أو كان عليه دين ; لأن صحة الإعتاق تقف على ملك الرقبة ، وقد وجد إلا أنه إذا لم يكن على العبد دين لا شيء على المولى ، وإن كان عليه دين فالغرماء بالخيار إن شاءوا اتبعوا المولى بالأقل من قيمته ومن الدين ; لأنه تصرف في ملك نفسه وأتلف حق الغير لتعلق الغرماء بالرقبة فيراعى جانب الحقيقة بتنفيذ الإعتاق ، ويراعى جانب الحق بإيجاب الضمان مراعاة للجانبين عملا بالدليلين فينظر إن كانت قيمة العبد مثل الدين غرم ذلك وإن كانت أكثر منه غرم قيمة الدين ، وإن كانت أقل منه غرم ذلك القدر ; لأنه ما أتلف عليهم بالإعتاق إلا القدر المتعلق برقبة العبد فيؤاخذ المولى بذلك ويتبع الغرماء العبد بالباقي ، وإن شاءوا اتبعوا العبد بكل الدين فيستسعوه فيه ; لأن كل الدين كان واجبا عليه لمباشرة سبب الوجوب منه حقيقة وهو المعاملة إلا أن رقبته تعينت لاستيفاء قدر ما يحتمله من الدين منها بتعيين المولى أو شرعا على ما نذكر في موضعه - إن شاء الله تعالى - فبقيت الزيادة على ذلك في ذمة العبد ، وقد عتق فيطالب به ، وأيهما اختاروا اتباعه لا يبرأ الآخر ; لأن اختيار التضمين في باب الغصب يتضمن المغصوب ، والتمليك بعوض لا يحتمل الرجوع عنه ، فأما اختيار اتباع أحدهما ههنا لا يوجب ملك الدين منه ، ولو لم يكن على العبد دين ولكنه قتل عبدا آخر خطأ وعلم المولى به فأعتقه وهو عالم به يصير مختارا للفداء يغرم المولى تمام قيمة العبد المقتول إن كان قليل القيمة ، وإن كان كثير القيمة بأن كانت قيمته عشرة آلاف أو أكثر غرم عشرة آلاف إلا عشرة فرق بين الجناية والدين إذا أعتقه ، وعليه دين وهو عالم به لا يلزمه تمام الدين بل الأقل من قيمته ومن الدين علم بالدين أو لم يعلم .

وههنا يلزمه تمام القيمة إذا كان عالما بالجناية ، ووجه أن الفرق موجب جناية العبد على المولى وهو الدفع لكن جعل له سبيل الخروج عنه بالفداء بجميع الأرش فإذا أعتقه مع العلم بالجناية فقد صار مختارا للفداء فيلزمه الفداء بجميع قيمة العبد المقتول إلا أن تكون عشرة آلاف أو أكثر فينقص منه عشرة إذ لا مزيد لدية العبد على هذا القدر ، فأما موجب معاملة العبد وهو الدين فعلى العبد حقا للغرماء إلا أن القيمة التي في مالية الرقبة فإنها تعلق بها وبالإعتاق ما أبطل عليهم إلا ذلك القدر من حقهم فيضمنه ، والزيادة بقيت في ذمة العبد فيطالب به بعد العتق ، وكذلك إن كان قتل حرا خطأ فأعتقه المولى وهو عالم به غرم المولى دية الحر ; لأن الإعتاق مع العلم بالجناية دليل اختيار الفداء .

ودية الحر مقدرة بعشرة آلاف درهم فيغرمها المولى هذا إذا أعتقه المولى وهو عالم بالجناية ، فأما إذا لم يكن عالما بالجناية يغرم قيمة عبده لأولياء الجناية ; لأنه إذا لم يكن عالما بالجناية وقت الإعتاق لم يكن إعتاقه دليل اختيار الفداء ; لأن هذا النوع من الاختيار لا يتحقق بدون العلم ويلزمه قيمة عبده ; لأن الواجب الأصلي على المولى هو دفع العبد بالجناية ألا ترى أنه لو هلك العبد قبل اختيار الفداء لا شيء على المولى ، وإنما ينتقل من العين إلى الفداء باختيار الفداء ، فإذا لم يكن الإعتاق قبل العلم دليل الاختيار بقي الدفع واجبا وتعذر عليه دفع عينه فيلزمه دفع ماليته إذ هو دفع العين من حيث الصورة .

ولو كان على العبد المأذون دين محيط برقبته وجنى جنايات تحيط بقيمته فأعتقه المولى وهو لا يعلم بالجناية فإنه يغرم لأصحاب الدين قيمته كاملة ويغرم لأصحاب الجناية قيمة أخرى إلا أن تكون قيمته عشرة آلاف أو أكثر فينقص منها عشرة ; لأن حق أصحاب الدين قد تعلق بمالية العين ، وحق أصحاب الجناية قد تعلق بالعين ، والمولى بالإعتاق [ ص: 199 ] أبطل الحقين جمعا فيضمنها ولو قتله أجنبي يضمن قيمة واحدة ; لأن الضمان الواجب بالقتل ضمان إتلاف النفس ، والنفس واحدة فلا يتعدد ضمانها ، فأما الضمان الواجب بالإعتاق فضمان إبطال الحق فيتعدد ضمانه فهو الفرق ، والله تعالى الموفق فإن قيل لم لا يشارك أصحاب الدين أصحاب الجناية فالجواب لاختلاف محل الحقين فالدفع يتعلق بالعين ، والدين يتعلق بمالية العين وهما محلان مختلفان فتعذرت المشاركة والله تعالى أعلم .

وكذلك يملك إعتاق المدبر وأم الولد المأذونين في التجارة لما قلنا ولو أعتقهما وعليهما دين فلا ضمان على المولى من الدين ولا من قيمة المدبر وأم الولد ; لأن دين التجارة لم يتعلق برقبتهما فخروجهما عن احتمال الاستيفاء منهما بالتدبير والاستيلاء فلم يوجد منه إتلاف حق الغرماء فلا يضمن ، وهل يملك إعتاق كسب عبده المأذون ؟ لا خلاف في أنه إذا لم يكن على المأذون دين أصلا يملك وينفذ إعتاقه ولا شيء عليه ; لأن الإعتاق صادف محلا هو خالص ملكه لا حق لأحد فيه فينفذ ، ولا يضمن شيئا ، وإن كان عليه دين ، فإن كان كثيرا يحيط برقبته وكسبه لا يملك ولا ينفذ إعتاقه عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إلا أن يسقط حق الغرماء بأن يقضي المولى دينهم أو تبرئه الغرماء من الدين أو يشتريه المولى من الغرماء .

وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - يملك وينفذ إعتاقه ويضمن قيمته إن كان موسرا ، وإن كان معسرا سعى العبد فيه ويرجع على المالك ، والمسألة تعرف بأن المولى يملك كسب عبده المأذون المديون دينا مستغرقا لرقبته وكسبه عنده لا يملك ، وعندهما يملك وجه قولهما أن رقبة المأذون وإن تعلق بها حق الغرماء فهي ملك المولى ألا ترى أنه ملك إعتاقه ، وملك الرقبة علة ملك الكسب فيملك الكسب كما يملك الرقبة وجه قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن شرط ثبوت الملك للمولى في كسب العبد فراغه عن حاجة العبد ولم يوجد فلا يثبت الملك له فيه كما لا يثبت للوارث في التركة المستغرقة بالدين والدليل على أن الفراغ شرط أن الملك للمولى في كسب العبد ثبت معدولا به عن الأصل أنه لم يحصل بكسبه حقيقة ، وقال الله تبارك وتعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } .

وهذا ليس من سعيه حقيقة فلا يكون له بظاهر النص إلا أن الكسب الفارغ عن حاجة العبد خص عن عموم النص وجعل ملكا للمولى فبقي الكسب المشغول بحاجته على ظاهر النص هذا إذا كان الدين محيطا بالرقبة والكسب ، فإن لم يكن محيطا بهما فلا شك أنه لا يمنع الملك عندهما ; لأن المحيط عندهما لا يمنع فغير المحيط أولى .

( وأما ) أبو حنيفة - رضي الله عنه - فقد كان يقول أولا يمنع حتى لا يصح إعتاقه شيئا من كسبه ، ثم رجع وقال : لا يمنع وجه قوله الأول ما ذكرنا أن الفراغ شرط ثبوت الملك له ، فالشغل وإن قل يكون مانعا وجه قوله الآخر أن المانع من ملك المولى كون الكسب مشغولا لحاجة العبد وبعضه مشغول وبعضه فارغ .

( فإما ) أن يعتبر جانب الشغل في المنع من ثبوت الملك له في كله .

( وإما ) أن يعتبر جانب الفراغ في إيجاب الملك له في كله ، واعتبار جانب الفراغ أولى ; لأنا إذا اعتبرنا جانب الفراغ فقد راعينا حق الملك بإثبات الملك له وحق الغرماء بإثبات الحق لهم فإذا اعتبرنا جانب الشغل فقد راعينا جانب الغرماء وأبطلنا حق المالك أصلا فقضينا حق المالك بتنفيذ إعتاقه ، وقضينا حق الغرماء بالضمان صيانة للحقين عن الإبطال عملا بالدليلين بقدر الإمكان ، ولهذا أثبت الملك للوارث في كل التركة إذا لم يكن الدين محيطا بها كذا هذا ، ولو أعتقه ثم قضى المولى دين الغرماء من خالص ملكه أو أبرأه الغرماء نفذ إعتاقه عند عامة أصحابنا - رحمهم الله تعالى - وقال الحسن بن زياد - رحمه الله - لا ينفذ وجه قول الحسن أن الإعتاق صادف كسبا مشغولا بحاجة العبد ; لأن الملك ثبت مقصورا على حال القضاء والإبراء فيمنع النفاذ كما إذا أعتق عبد مكاتبه ثم عجز المكاتب أنه لا ينفذ إعتاقه كذا هذا .

( ولنا ) أن النفاذ كان موقوفا على سقوط حق الغرماء ، وقد سقط حقهم بالقضاء والإبراء فظهر النفاذ من حين وجوده من كل وجه بخلاف ما إذا أعتق عبدا من أكساب مكاتبه ; لأن المكاتب أحق بأكسابه من المولى ; لأنه فيما يرجع إلى أكسابه كالحر وبالعجز لا يتبين أنه لم يكن أحق بكسبه فلم ينفذ إعتاق المولى ، وعلى هذا الخلاف لو أعتق الوارث عبدا من التركة المستغرقة بالدين ، ثم قضى الوارث الدين من مال نفسه أو أبرأ الغرماء الميت من الدين أنه ينفذ إعتاقه خلافا للحسن ، ولو وطئ المولى جارية العبد المأذون وعليه دين محيط فجاءت بولد فادعاه ثبت نسبه منه وصارت [ ص: 200 ] الجارية أم ولد له وغرم قيمة الجارية للغرماء ، ولا يغرم لهم شيئا من عقرها قليلا ولا كثيرا أما صحة الدعوة فلأن ملك المولى إن لم يظهر في الكسب في الحال عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - فله فيه حق الملك فصحت دعوته .

( وأما ) لزوم قيمة الجارية للغرماء فلأنه بالدعوة أبطل حقهم .

( وأما ) عدم وجوب العقر فلأن المانع من ظهور ملكه في الكسب حق الغرماء ، وقد سقط حقهم بالضمان فيظهر الملك له فيه من حين اكتسبه العبد فتبين أنه وطئ ملك نفسه فلا يلزمه العقر ، ولو أعتق المولى جارية العبد المأذون ، وعليه دين محيط ثم وطئها فجاءت بولد فادعاه المولى صحت دعوته والولد حر ، ويضمن قيمة الجارية للغرماء لما قلنا ; لأن الإعتاق السابق منه لم يحكم بنفاذه للحال فكان حق الملك ثابتا له إلا أن الجارية ههنا تصير حرة بالإعتاق السابق ، وعلى المولى العقر للجارية أما صيرورتها حرة بالإعتاق السابق فلأن الإعتاق السابق كان نفاذه موقوفا على سقوط حق الغرماء ، وقد سقط بدعوة المولى فنفذ فصارت حرة بذلك الإعتاق .

( وأما ) لزوم العقر للجارية فلأن الوطء صادف الحرة من وجه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ويملك المولى بيع العبد المأذون إذا لم يكن عليه دين ; لأنه خالص ملكه ، وإن كان عليه دين لا يملك بيعه إلا بإذن الغرماء أو بإذن القاضي بالبيع للغرماء أو بقضاء الدين ولو أذن له بعض الغرماء بالبيع لا يملك بيعه إلا بإجازة الباقين لما نذكره في بيان حق تعلق الدين ويملك أخذ كسب العبد من يده إذا لم يكن عليه دين ; لأنه فارغ عن حاجته فكان خالص ملكه ، ولو لحقه دين بعد ذلك فالمأخوذ سالم للمولى ; لأن شرط خلوص الملك له فيه كونه فارغا عند الأخذ ، وقد وجد .

ولو كان الكسب في يد العبد ولا دين عليه فلم يأخذ المولى حتى لحقه دين ثم أراد أن يأخذه لا يملك أخذه ; لأنه لم يوجد الفراغ عند الأخذ فلم يوجد الشرط ، وإن كان عليه دين وفي يده كسب لا يملك أخذه ; لأنه مشغول بحاجته لتعلق حق الغرماء به ، ولو أخذه المولى فللغرماء أن يأخذوه منه إن كان قائما وقيمته إن كان هالكا ; لتعلق حقهم بالمأخوذ فعليه رد عينه أو بدله ، ولو لحقه دين آخر بعدما أخذه المولى اشترك الغرماء الأولون والآخرون في المأخوذ وأخذوا عينه أو قيمته ; لأن زمان الإذن مع تعدده حقيقة في حكم زمان واحد كزمان المرض فكان زمان تعلق الديون كلها واحدا لذلك اشتركوا فيه ولو كان المولى يأخذ الغلة من العبد في كل شهر فلحقه دين محيط برقبته وكسبه فهل يجوز له قبض الغلة مع قيام الدين ؟ ينظر إن كان يأخذ عليه مثله جاز له ذلك استحسانا .

والقياس أن لا يجوز ; لأن حقهم يتعلق بالغلة إلا أنا استحسنا الجواز نظرا للغرماء ; لأن الغلة لا تحصل إلا بالتجارة فلو منع المولى عن أخذ غلة المثل لحجره عن التجارة فلا يتمكن من الكسب فيتضرر به الغرماء فكان إطلاق هذا القدر وسيلة إلى غرضهم فكان تحصيلا للغلة من حيث المعنى ، وليس له أن يأخذ أكثر من غلة المثل ، ولو أخذ رد الفضل على الغرماء ; لأن امتناع ظهور حقهم في غلة المثل للضرورة ولا ضرورة في الزيادة فيظهر حقهم فيها مع ما أن في إطلاق ذلك إضرارا بالغرماء ; لأن المولى يوظف عليه غلة تستغرق كسب الشهر فيتضرر به الغرماء ، وعلى هذا إذا كان على العبد دين وفي يده مال فاختلف العبد والمولى فالقول قول العبد ويقضي منه الدين ; لأن الكسب في يده والمأذون في إكسابه التي في يده كالحر ، ولو كان المال في يدهما فهو بينهما لاستوائهما في اليد .

وإن كان ثمة ثالث فهو بينهم أثلاثا لما قلنا ، ولو لم يكن عليه دين فاختلف العبد والمولى وأجنبي فهو بين المولى والأجنبي ; لأنه إذا لم يكن عليه دين فلا عبرة ليده فكانت يده ملحقة بالعدم فبقيت يد المولى والأجنبي فكان الكسب بينهما نصفين ، وهذا إذا لم يكن العبد في منزل المولى ، فإن كان في منزل المولى وفي يده ثوب فاختلفا ، فإن كان الثوب من تجارة العبد فهو له ; لأنهما استويا في ظاهر اليد وترجح يد العبد بالتجارة ، وإن لم يكن من تجارته فهو للمولى ; لأن الظاهر شاهد للمولى ، ولو كان العبد راكبا على دابة أو لابسا ثوبا فهو للعبد سواء كان من تجارته أو لم يكن ; لأنه ترجح يده بالتصرف فكانت أولى من يد المولى ، ولو تنازع المأذون وأجنبي فيما في يده من المال فالقول قول العبد لما ذكرنا أنه فيما يرجع إلى السيد كالحر .

، ولو آجر الحر أو المأذون نفسه من خياط يخيط معه أو من تاجر يعمل معه ، وفي يد الأجير ثوب واختلفا فقال المستأجر : هو لي ، وقال الأجير : هو لي ، فإن كان الأجير في حانوت التاجر والخياط فهو للتاجر والخياط [ ص: 201 ] وإن لم يكن في منزله وكان في السكة فهو للأجير ; لأن الأجير إذا كان في دار الخياط ، ودار الخياط في يد الخياط كان الأجير مع ما في يده في يد الخياط ضرورة ، وإذا كان في السكة لم يكن هو في يده فكذا ما في يده كما لو كان مكان الأجير أجنبي ، ولو آجر المولى عبده المحجور من رجل ومعه ثوب فادعاه المولى والمستأجر فهو للمستأجر سواء كان العبد في منزل المستأجر أو لم يكن بخلاف الأجير إذا لم يكن في منزل المستأجر أنه يكون للأجير دون المستأجر ، ووجه الفرق بأن يد العبد يد نيابة عن المولى ، وقد صار مع ما في يده بالإجارة في يد المستأجر فكان القول قول صاحب اليد ، فأما يد الأجير فيد أصالة إذ هو في حق اليد كالحر فلا يصير بنفس الإجارة في يد المستأجر ، ولو كان المحجور في منزل المولى فهو للمولى ; لأنه إذا كان في منزل المولى كان في يده لكون منزله في يده فتزول يد المستأجر ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية