بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما الذي يدخل على قدر المقر به فهو أن يكون المقر به مجهول القدر وأنه في الأصل لا يخلو من أحد وجهين إما أن يذكر عددا واحدا وإما أن يجمع بين عددين ، فالأول نحو أن يقول : لفلان علي دراهم أو دنانير لا يصدق في أقل من ثلاثة ; لأن الثلاثة أقل الجمع الصحيح فكان ثابتا بيقين ، وفي الزيادة عليها شك وحكم الإقرار لا يلزم بالشك .

ولو قال : لفلان علي دريهم [ ص: 220 ] أو دنينير فعليه درهم تام ودينار كامل لأن التصغير له قد يذكر لصغر الحجم وقد يذكر لاستحقار الدرهم واستقلاله وقد يذكر لنقصان الوزن فلا ينقص عن الوزن بالشك وروي عن أبي يوسف فيمن قال : لفلان علي شيء من دراهم أو شيء من الدراهم أن عليه ثلاثة دراهم لأنه أجمل الشيء وفسره بدراهم أي الشيء الذي هو دراهم كما في قوله تبارك وتعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } أي الرجس التي هي أوثان والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

ولو قال : لفلان علي دراهم مضاعفة لا يصدق في أقل من ستة ; لأن أقل الجمع الصحيح للدراهم ثلاثة ، وأقل التضعيف مرة واحدة فإذا ضعفنا الثلاثة مرة تصير ستة ولو قال : لفلان علي دراهم أضعافا مضاعفة لا يصدق في أقل من ثمانية عشر لما بينا أن الدراهم المضاعفة ستة ، وأقل أضعاف الستة ثلاث مرات فذلك ثمانية عشر .

ولو قال : لفلان علي عشرة دراهم وأضعافها مضاعفة لا يصدق في أقل من ثمانين لأنه ذكر عشرة دراهم وضاعف عليها أضعافها مضاعفة ، وأقل أضعاف العشرة ثلاثون فذلك أربعون ، وأقل تضعيف الأربعين مرة فذلك ثمانون .

وروي عن محمد فيمن قال : لفلان علي غير ألف أن عليه ألفين ولو قال : غير ألفين ، عليه أربعة آلاف ; لأن غير من أسماء الإضافة فيقتضي ما يغايره لاستحالة مغايرة الشيء نفسه فاقتضى ألفا تغاير الألف الذي عليه فصار معناه : لفلان علي غير ألف أي غير هذا الألف ألف آخر فكان إقرارا بألفين ، وكذا هذا الاعتبار في قوله غير ألفين ، ويحتمل أن يكون قوله غير ألف أي مثل ألف ; لأن المغايرة من لوازم المماثلة لاستحالة كون الشيء مماثلا لنفسه ولهذا قيل في حدها : غير أن ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده والملازمة بين شيئين طريق الكتابة فصحت الكتابة عن المماثلة بالمغايرة ، فإذا قال : لفلان علي غير ألف درهم فكأنه قال مثل ألف ومثل الألف ألف مثله فكان إقرارا بألفين ، وكذا هذا الاعتبار في قوله غير ألفين .

ولو قال علي زهاء ألف أو عظم ألف أو جل ألف فعليه خمسمائة وشيء ; لأن هذه عبارات عن أكثر هذا القدر في العرف وكذا إذا قال : قريب من ألف ; لأن خمسمائة وشيئا أقرب إلى الألف من خمسمائة ولو قال : لفلان علي دراهم كثيرة لا يصدق في أقل من عشرة دراهم عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهم الله - لا يصدق في أقل من مائتي درهم ( وجه ) قولهما أن المقر به دراهم كثيرة وما دون المائتين في حد القلة ، ولهذا لم يعتبر ما دونه نصاب الزكاة ( وجه ) قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه جعل الكثرة صفة للدراهم ، وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم العشرة ، ألا ترى أنه إذا زاد على العشرة يقال : أحد عشر درهما واثني عشر درهما هكذا ، ولا يقال دراهم فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم فلا تلزمه الزيادة عليها ولو قال : لفلان علي مال عظيم أو كثير لا يصدق في أقل من مائتي درهم في المشهور وروي عن أبي حنيفة - رحمه الله - أن عليه عشرة ( وجه ) ما روي عنه أنه وصف المال بالعظم ، والعشرة لها عظم في الشرع ، ألا ترى أنه علق قطع اليد بها في باب السرقة ، وقدر بها بدل البضع وهو المهر في باب النكاح .

( وجه ) القول المشهور أن العشرة لا تستعظم في العرف وإنما يستعظم النصاب ولهذا استعظمه الشرع حيث علق وجوب المعظم وهو الزكاة به فكان هذا أقل ما استعظمه الشرع عرفا فلا يصدق في أقل من ذلك وقيل : إن كان الرجل غنيا يقع على ما يستعظم عند الأغنياء ، وإن كان فقيرا يقع على ما يستعظم عند الفقراء ولو قال : علي أموال عظام فعليه ستمائة درهم ; لأن " عظام " جمع عظيم ، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة وهذا على المشهور من الروايات فأما على ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيقع على ثلاثين درهما ولو قال : غصبت فلانا إبلا كثيرة فهو على خمس وعشرين لأنه وصف بالكثرة ولا تكثر إلا إذا بلغت نصابا تجب الزكاة فيها في جنسها ، وأقل ذلك خمس وعشرون ولو قال : لفلان علي حنطة كثيرة فعند أبي حنيفة - رحمه الله - البيان إليه ، وعندهما لا يصدق في أقل من خمسة أوسق بناء على أن النصاب في باب العشر ليس بشرط عند أبي حنيفة ، وعندهما شرط ولو قال : لفلان علي ما بين مائة إلى مائتين أو من مائة إلى مائتين فعليه مائة وتسعة وتسعون عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد عليه مائتان ، وعند زفر عليه تسعة وتسعون .

وكذلك إذا قال : لفلان علي ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة فعليه تسعة دراهم عند أبي حنيفة ، وعندهما [ ص: 221 ] عليه عشرة ، وعند زفر عليه ثمانية ولو قال : ما بين هذين الحائطين لفلان ، لم يدخل الحائطان في إقراره بالإجماع لو وضع بين يديه عشرة مرتبة فقال : ما بين هذا الدرهم إلى هذا الدرهم وأشار إلى الدرهمين لفلان لم يدخل الدرهمان تحت إقراره بالاتفاق ، والأصل فيه أن الغايتان لا يدخلان ، وعندهما يدخلان ، وعند أبي حنيفة يدخل الأول دون الآخر وجه قول زفر أن المقر به ما ضربت به الغاية لا الغاية فلا تدخل الغاية تحت ما ضربت له الغاية وهنا لم يدخل في باب البيع ( وجه ) قولهما أنه لما جعلهما غايتين فلا بد من وجودهما ومن ضرورة وجودهما لزومهما ( وجه ) قول أبي حنيفة الرجوع إلى العرف والعادة فإن من تكلم بمثل هذا الكلام يريد به دخول الغاية الأولى دون الثانية ألا ترى أنه إذا قيل : سن فلان ما بين تسعين إلى مائة لا يراد به دخول المائة ، كذا ههنا ولو قال : لفلان علي ما بين كر شعير إلى كر حنطة فعليه كر شعير وكر حنطة إلا قفيزا على قياس قول أبي حنيفة ، وعندهما عليه كران ولو قال : لفلان علي من درهم إلى عشرة دنانير أو من دينار إلى عشرة دراهم فعند أبي حنيفة - رحمه الله - عليه أربعة دنانير وخمسة دراهم تجعل الغاية الأخيرة من أفضلهما ، وعندهما عليه خمسة دنانير وخمسة دراهم ، وعند زفر عليه من كل جنس أربعة ولو قال له علي من عشرة دراهم إلى عشرة دنانير عليه عشرة دراهم وتسعة دنانير عند أبي حنيفة رحمه الله وكذلك لو قال له علي من عشرة دنانير إلى عشرة دراهم قدم أو أخر ، وعندهما عليه الكل وكذلك هذا الاختلاف في الوصية والطلاق .

ولو قال : لفلان علي خمسة دراهم في خمسة دراهم ونوى الضرب والحساب فعليه خمسة ، وقال زفر عليه خمسة وعشرون ( وجه ) قوله أن خمسة في خمسة على طريق الضرب والحساب خمسة وعشرون فيلزمه ذلك .

( ولنا ) أن الشيء لا يتكثر في نفسه بالضرب وإنما يتكثر بأجزائه فخمسة في خمسة له خمسة أجزاء فيلزمه ذلك بالإقرار وإن نوى به خمسة مع خمسة فعليه عشرة ; لأن " في " تحتمل " مع " لمناسبة بينهما في معنى الاتصال ولو أقر بتمر في قوصرة فعليه التمر والقوصرة جميعا وكذلك إذا قال : غصبت من فلان ثوبا في منديل يلزمه الثوب والمنديل ، وهذا عندنا ، وعند الشافعي - رحمه الله - لا يلزمه الظرف ولو أقر بدابة في إصطبل لا يلزمه الإصطبل بالإجماع ( وجه ) قول الشافعي - رحمه الله - أن الداخل تحت الإقرار التمر والثوب لا القوصرة والمنديل ; لما ذكرنا أن ذلك ظرفا فالإقرار بشيء في ظرفه لا يكون إقرارا به وبظرفه كالإقرار بدابة في الإصطبل وبنخلة في البستان أنه لا يكون إقرارا بالإصطبل والبستان .

( ولنا ) أن الإقرار بالتمر في قوصرة إقرار بوجود سبب وجوب الضمان فيهما وكذلك الإقرار بغصب الثوب في منديل ; لأن الثوب يغصب مع المنديل الملفوف فيه عادة ، وكذلك التمر مع القوصرة .

وأما غصب الدابة مع الإصطبل فغير معتاد مع ما أن العقار لا يحتمل الغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله ولو قال : لفلان علي ثوب في ثوب ، فعليه ثوبان لما قلنا ولو قال : ثوب في عشرة أثواب فليس عليه إلا ثوب واحد عند أبي يوسف ، وعند محمد - رحمه الله - أحد عشر ثوبا ( وجه ) قول محمد - رحمه الله - أنه جعل عشرة أثواب ظرفا لثوب واحد ، وذلك محتمل بأن يكون في وسط العشرة فأشبه الإقرار بثوب في منديل أو في ثوب .

( وجه ) قول أبي يوسف أن ما ذكره محمد ممكن لكنه غير معتاد ومطلق الكلام للمعتاد هذا إذا ذكر عددا واحدا مجملا فإن ذكر عددا واحدا معلوما لكن أضافه إلى صنفين بأن قال : لفلان علي مائتا مثقال ذهب وفضة أو كرا حنطة وشعير فله من كل واحد منهما النصف وكذلك لو سمى أجناسا ثلاثة فعليه من كل واحد الثلث وكذلك لو تزوج على ذلك لأنه ذكر عددا واحدا وأضافه إلى عددين من غير بيان حصة كل واحد منهما فتكون حصة كل واحد منهما على السواء كما إذا أضافه إلى شخص واحد بأن أقر بمائتي درهم لرجلين فإن لكل واحد منهما النصف ، كذا هذا ولو قال : استودعني ثلاثة أثواب زطي ويهودي فالقول قول المقر إن شاء جعل زطيين ويهوديا ، وإن شاء جعل يهوديين وزطيا لأنه جعل الأثواب الثلاثة من جنس الزطي واليهودي فيكون زطي ويهودي مرادا بيقين فكان البيان في الآخر إليه لتعذر اعتبار المساواة فيه .

ولو قال : استودعني عشرة أثواب هروية ومروية كان من كل صنف النصف ; لأن اعتبار المساواة ههنا ممكن وأما إذا جمع بين عددين فلا يخلو إما أن جمع بين عددين مجملين وإما إن أجمل [ ص: 222 ] أحدهما وبين الآخر فإن جمع بين عددين مجملين بأن قال : لفلان علي كذا كذا درهما ، لا يصدق في أقل من أحد عشر درهما لأنه جمع بين عددين مبهمين وجعلهما اسما واحدا من غير حرف الجمع وذلك يحتمل أحد عشر واثني عشر هكذا إلى تسعة عشر إلا أن أقل عدد يعبر عنه بهذه الصيغة أحد عشر فيحمل عليه لكونه متيقنا به ويلزمه أحد عشر درهما لأنه فسر هذا العدد بالدراهم لا بغيرها ولو قال : لفلان علي كذا وكذا درهما لا يصدق في أقل من إحدى وعشرين درهما لأنه جمع بين عددين مبهمين بحرف الجمع وجعلهما اسما واحدا ، وأقل ذلك إحدى وعشرون وأما إذا أجمل أحدهما وبين الآخر فنحو أن يقول : لفلان علي عشرة دراهم ونيف فعليه عشرة والقول قوله في النيف من درهم أو أكثر أو أقل لأنه عبارة عن مطلق الزيادة ولو قال : لفلان علي بضع وخمسون درهما لا يصدق في بيان البضع في أقل من ثلاثة دراهم ; لأن البضع في اللغة اسم لقطعة من العدد ، وفي عرف اللغة يستعمل في الثلاثة إلى التسعة فيحمل على أقل المتعارف لأنه متيقن به ولو قال : لفلان علي عشرة دراهم ودانق أو قيراطا فالدانق والقيراط من الدراهم لأنه عبارة عن جزء من الدراهم كأنه قال : لفلان علي عشرة وسدس ولو قال : لفلان علي مائة ودرهم فالمائة دراهم ولو قال : مائة ودينار فالمائة دنانير ويكون المعطوف عليه من جنس المعطوف وهذا استحسان والقياس أن يلزمه درهم والقول قوله في المائة .

( وجه ) القياس أنه أبهم المائة وعطف الدرهم عليها فيعتبر تصرفه على حسب ما أوقعه فيلزمه درهم والقول في المبهم قوله ( وجه ) الاستحسان أن قوله : لفلان علي مائة ودرهم أي مائة درهم ودرهم ، هذا معنى هذا في عرف الناس ، إلا أنه حذف الدرهم طلبا للاختصار على ما عليه عادة العرب من الإضمار والحذف في الكلام وكذلك لو قال : لفلان علي مائة وشاة فالمائة من الشياه عليه الناس ولو قال : لفلان علي مائة وثوب فعليه ثوب ، والقول في المائة قوله ; لأن مثل هذا لا يستعمل في بيان كون المعطوف عليه من جنس المعطوف فبقيت المائة مجملة فكان البيان فيما أجمل عليه وكذلك إذا قال : مائة وثوبان ولو قال : مائة وثلاثة أثواب فالكل ثياب ; لأن قوله مائة وثلاثة كل واحد منهما مجمل ، وقوله أثواب يصلح تفسيرا لهما فجعل تفسيرا لهما وكذلك روي عن أبي يوسف - رحمه الله - فيمن قال : لفلان علي عشرة وعبد أن عليه عبدا ، والبيان في العشرة إليه ، والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك إذا قال : لفلان علي عشرة ووصيفة أن عليه وصيفة ، والبيان في العشرة إليه ولو أقر لرجل بألف في مجلس ثم أقر له بألف أخرى نظر في ذلك : فإن أقر له في مجلس آخر فعليه ألفان عند أبي حنيفة - رحمه الله - وعند أبي يوسف ومحمد عليه ألف واحدة ، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رضي الله عنه أيضا .

وإن أقر له في مجلس واحد فعندهما لا يشكل أن عليه ألفا واحدا وأما عند أبي حنيفة ذكر عن الكرخي أن عليه ألفين وذكر عن الطحاوي أن عليه ألفا واحدا وهو الصحيح ( وجه ) قول أبي يوسف ومحمد أن العادة بين الناس بتكرار الإقرار بمال واحد في مجلسين مختلفين لتكثير الشهود كما جرت العادة بذلك في مجلس واحد ليفهم الشهود فلا يحمل على إنشاء الإقرار مع الشك ( وجه ) قول أبي حنيفة أن الألف المذكور في الإقرار الثاني غير الألف المذكور في الإقرار الأول لأنه ذكر كل واحد من الألفين منكرا ، والأصل أن النكرة إذا كررت يراد بالثاني غير الأول قال الله تبارك وتعالى { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } حتى قال ابن عباس رضي الله عنه لن يغلب عسر يسرين إلا أنا تركنا هذا الأصل في المجلس الواحد للعادة ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية