بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
والثالث : أن يكون معصوم الدم مطلقا ، فلا يقتل مسلم ، ولا ذمي بالكافر الحربي ، ولا بالمرتد لعدم العصمة أصلا ورأسا ، ولا بالحربي المستأمن في ظاهر الرواية ; لأن عصمته ما ثبتت مطلقة بل مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام ، وهذا لأن المستأمن من أهل دار الحرب ، وإنما دخل دار الإسلام لا لقصد الإقامة بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي ، فكانت في عصمته شبهة العدم .

وروي عن أبي يوسف أنه يقتل به قصاصا لقيام العصمة وقت القتل ، وهل يقتل المستأمن بالمستأمن ؟ ذكر في السير الكبير أنه يقتل ، وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يقتل .

ولا يقتل العادل بالباغي لعدم العصمة بسبب الحرب ، لأنهم يقصدون أموالنا وأنفسنا ويستحلونها ، وقد قال : عليه الصلاة والسلام { قاتل دون نفسك } ، وقال عليه الصلاة والسلام { قاتل دون مالك } ، ولا يقتل الباغي بالعادل أيضا عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله يقتل ، لأن المقتول معصوم مطلقا .

( ولنا ) أنه غير معصوم في زعم الباغي ، لأنه يستحل دم العادل بتأويل ، وتأويله وإن كان فاسدا لكن له منعة ، والتأويل الفاسد عند وجود المنعة ألحق بالتأويل الصحيح في حق وجوب الضمان بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه روي عن الزهري أنه قال : وقعت الفتنة ، والصحابة متوافرون ، فاتفقوا على أن كل دم استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال الرجل لآخر : اقتلني ، فقتله أنه لا قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر يجب القصاص .

( وجه ) قوله أن الآمر بالقتل لم يقدح في العصمة ، لأن عصمة النفس مما لا تحتمل الإباحة بحال ، ألا ترى أنه يأثم بالقول ؟ فكان الأمر ملحقا بالعدم بخلاف الأمر بالقطع ، لأن عصمة الطرف تحتمل الإباحة في الجملة فجاز أن يؤثر الأمر فيها ، ولنا أنه تمكنت في هذه العصمة شبهة العدم ، لأن الأمر ، وإن لم يصح حقيقة فصيغته تورث شبهة ، والشبهة في هذا الباب لها حكم الحقيقة ، وإذا لم يجب القصاص فهل تجب الدية ؟ فيها روايتان عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رواية تجب ، وفي رواية لا تجب ، وذكر القدوري - رحمه الله - أن هذا أصح الروايتين ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد - رحمهما الله - ، وينبغي أن يكون الأصح هي الأولى ; لأن العصمة قائمة مقام الحرمة ، وإنما سقط القصاص لمكان الشبهة ، والشبهة لا تمنع وجوب المال ، ولو قال اقطع يدي فقطع لا شيء عليه بالإجماع ; لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال ، وعصمة الأموال تثبت حقا له ، فكانت محتملة للسقوط بالإباحة والإذن ، كما لو قال له : أتلف مالي فأتلفه ، ولو قال : اقتل عبدي أو اقطع يده فقتل أو قطع فلا ضمان عليه ; لأن عبده ماله ، وعصمة ماله ثبتت حقا له فجاز أن يسقط بإذنه كما في سائر أمواله ، ولو قال : اقتل أخي فقتله ، وهو وارثه القياس أن يجب القصاص ، وهو قول زفر رحمه الله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه أستحسن أن آخذ الدية من القاتل .

( وجه ) القياس أن الأخ الآمر أجنبي عن دم أخيه فلا يصح إذنه بالقتل فالتحق بالعدم .

( وجه ) الاستحسان أن القصاص لو وجب بقتل أخيه لوجب له ، والقتل حصل بإذنه ، والإذن إن لم يعمل شرعا لكنه وجد حقيقة من حيث الصيغة ، فوجوده يورث شبهة كالإذن بقتل نفسه ، والشبهة لا تؤثر في وجوب المال ، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهما فيمن أمر إنسانا أن يقتل ابنه فقتله أنه يقتل به ، وهذا يوجب اختلاف الروايتين في المسألتين ، ولو أمره أن يشجه فشجه فلا شيء عليه إن لم يمت من الشجة ; لأن الأمر بالشجة كالأمر بالقطع ، وإن مات منها كانت عليه الدية كذا ذكر في الكتاب ، ويحتمل هذا أن يكون على أصل أبي حنيفة رحمه الله خاصة بناء على أن العفو عن الشجة لا يكون عفوا عن القتل عنده ، فكذا الأمر بالشجة لا يكون أمرا بالقتل ، ولما مات تبين أن الفعل ، وقع قتلا من حين وجوده لا شجا ، وكان [ ص: 237 ] القياس أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فتجب الدية ، فأما على أصلهما فينبغي أن لا يكون عليه شيء ، لأن العفو عن الشجة يكون عفوا عن القتل عندهما ، فكذا الأمر بالشجة يكون أمرا بالقتل .

روى ابن سماعة عن محمد - رحمهما الله - فيمن أمر إنسانا بأن يقطع يده ففعل فمات من ذلك أنه لا شيء على قاطعه ، ويحتمل أن يكون هذا قولهما خاصة ، كما قالا فيمن له القصاص في الطرف إذا قطع طرف من عليه القصاص فمات : إنه لا شيء عليه فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن تجب الدية ; لأنه لما مات تبين أن الفعل وقع قتلا ، والمأمور به القطع لا القتل ، وكان القياس أن يجب القصاص كما قال فيمن له القصاص في الطرف ، إلا أنه سقط لمكان الشبهة فتجب الدية ، وعلى هذا يخرج الحربي إذا أسلم في دار الحرب ، ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم أنه لا قصاص عليه عندنا ، لأنه وإن كان مسلما فهو من أهل دار الحرب قال الله تبارك وتعالى { فإن كان من قوم عدو لكم ، وهو مؤمن } فكونه من أهل دار الحرب أورث شبهة في عصمته ، ولأنه إذا لم يهاجر إلينا فهو مكثر سواد الكفرة ، ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وإن لم يكن منهم دينا فهو منهم دارا فيورث الشبهة .

ولو كانا مسلمين تاجرين أو أسيرين في دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فلا قصاص أيضا ، وتجب الدية ، والكفارة في التاجرين ، وفي الأسيرين خلاف ما ذكرناه في كتاب السير ، ولا يشترط أن يكون المقتول مثل القاتل في كمال الذات ، وهو سلامة الأعضاء ، ولا أن يكون مثله في الشرف ، والفضيلة فيقتل سليم الأطراف بمقطوع الأطراف ، والأشل ، ويقتل العالم بالجاهل ، والشريف بالوضيع ، والعاقل بالمجنون ، والبالغ بالصبي ، والذكر بالأنثى ، والحر بالعبد ، والمسلم بالذمي الذي يؤدي الجزية ، وتجري عليه أحكام الإسلام ، وقال الشافعي رحمه الله : كون المقتول مثل القاتل في شرف الإسلام والحرية شرط وجوب القصاص ، ونقصان الكفر ، والرق يمنع من الوجوب ، فلا يقتل المسلم بالذمي ، ولا الحر بالعبد ، ولا خلاف في أن الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل أنه يقتل به قصاصا ، وكذا العبد إذا قتل عبدا ثم عتق القاتل احتج في عدم قتل المسلم بالذمي بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { لا يقتل مؤمن بكافر } ، وهذا نص في الباب ، ولأن في عصمته شبهة العدم لثبوتها مع القيام المنافي ، وهو الكفر ; لأنه مبيح في الأصل لكونه جناية متناهية فيوجب عقوبة متناهية ، وهو القتل لكونه من أعظم العقوبات الدنيوية ، إلا أنه منع من قتله لغيره ، وهو نقض العهد الثابت بالذمة فقيامه يورث شبهة ; ولهذا لا يقتل المسلم بالمستأمن فكذا الذمي ; ولأن المساواة شرط وجوب القصاص ، ولا مساواة بين المسلم ، والكافر ، ألا ترى أن المسلم مشهود له بالسعادة ، والكافر مشهود له بالشقاء فأنى يتساويان ؟ .

( ولنا ) عمومات القصاص من نحو قوله تبارك وتعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } ، وقوله سبحانه ، وتعالى { ، وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، وقوله جلت عظمته { ، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } من غير فصل بين قتيل وقتيل ، ونفس ونفس ، ومظلوم ومظلوم ، فمن ادعى التخصيص والتقييد فعليه الدليل ، وقوله سبحانه ، وتعالى عز من قائل { ، ولكم في القصاص حياة } ، وتحقيق معنى الحياة في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم ; لأن العداوة الدينية تحمله على القتل خصوصا عند الغضب ، ويجب عليه قتله لغرمائه فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس فكان في شرع القصاص فيه في تحقيق معنى الحياة أبلغ ، وروى محمد بن الحسن - رحمهما الله - بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه { أقاد مؤمنا بكافر ، وقال عليه الصلاة والسلام أنا أحق من وفى ذمته } .

وأما الحديث فالمراد من الكافر المستأمن ، لأنه قال عليه الصلاة والسلام { لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده } عطف قوله ، { ولا ذو عهد في عهده } على المسلم فكان معناه لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد به ، ونحن به نقول أو نحمله على هذا توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض .

وأما قوله : " في عصمته شبهة العدم " ممنوع بل دمه حرام لا يحتمل الإباحة بحال مع قيام الذمة بمنزلة دم المسلم مع قيام الإسلام ، وقوله : " الكفر مبيح على الإطلاق " ممنوع بل المبيح هو الكفر الباعث على الحراب ، وكفره ليس بباعث على الحراب فلا يكون مبيحا ، وقوله : " لا مساواة بين المسلم والكافر " قلنا : المساواة في الدين ليس بشرط ، ألا ترى أن الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل يقتل به قصاصا ، ولا [ ص: 238 ] مساواة بينهما في الدين ، لكن القصاص محنة امتحنوا الخلق بذلك ، فكل من كان أقبل بحق الله تعالى ، وأشكر لنعمه كان أولى بهذه المحنة ، لأن العذر له في ارتكاب المحذور أقل ، وهو بالوفاء بعهد الله تعالى أولى ، ونعم الله تعالى في حقه أكمل فكانت جنايته أعظم ، واحتج في قتل الحر بالعبد بقول الله تبارك وتعالى { الحر بالحر ، والعبد بالعبد } ، وفسر القصاص المكتوب في صدر الآية بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد فيجب أن لا يكون قتل الحر بالعبد قصاصا ، ولأنه لا مساواة بين النفسين في العصمة لوجهين : أحدهما : أن الحر آدمي من كل وجه ، والعبد آدمي من وجه ، مال من وجه ، وعصمة الحر تكون له ، وعصمة المال تكون للمالك ، والثاني : أن في عصمة العبد شبهة العدم ; لأن الرق أثر الكفر ، والكفر مبيح في الأصل فكان في عصمته شبهة العدم ، وعصمة الحر تثبت مطلقة فأنى يستويان في العصمة ، وكذا لا مساواة بينهما في الفضيلة ، والكمال ; لأن الرق يشعر بالذل والنقصان ، والحرية تنبئ عن العزة ، والشرف .

( ولنا ) عمومات القصاص من غير فصل بين الحر والعبد ; ولأن ما شرع له القصاص ، وهو الحياة لا يحصل إلا بإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد ; لأن حصوله يقف على حصول الامتناع عن القتل خوفا على نفسه ، فلو لم يجب القصاص بين الحر والعبد لا يخشى الحر تلف نفسه بقتل العبد فلا يمتنع عن قتله بل يقدمه عليه عند أسباب حاملة على القتل من الغيظ المفرط ، ونحو ذلك ، فلا يحصل معنى الحياة ، ولا حجة له في الآية ، لأن فيها أن قتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد قصاص ، وهذا لا ينفي أن يكون قتل الحر بالعبد قصاصا ، لأن التنصيص لا يدل على التخصيص ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام { البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام ، والثيب جلد مائة ، ورجم بالحجارة } ثم البكر إذا زنى بالثيب وجب الحكم الثابت بالحديث ، فدل أنه ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم به ، يدل عليه أن العبد يقتل بالحر ، والأنثى بالذكر ، ولو كان التنصيص على الحكم في نوع موجبا تخصيص الحكم به لما قتل ، ثم قوله تعالى { ، والأنثى بالأنثى } حجة عليكم ، لأنه قال : " الأنثى بالأنثى " مطلقا فيقتضي أن تقتل الحرة بالأمة ، وعندكم لا تقتل ، فكان حجة عليكم ، وقوله : " العبد آدمي من وجه مال من وجه " قلنا : لا ، بل آدمي من كل وجه ; لأن الآدمي اسم لشخص على هيئة مخصوصة منسوب إلى سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام والعبد بهذه الصفة فكانت عصمته مثل عصمة الحر بل فوقها ، على أن نفس العبد في الجناية له ، لا لمولاه ، بدليل أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص والحد يؤخذ به ، ولو أقر عليه مولاه بذلك لا يؤخذ به فكان نفس العبد في الجناية له لا للمولى كنفس الحر للحر .

وأما قوله : " الحر أفضل من العبد " فنعم لكن التفاوت في الشرف ، والفضيلة لا يمنع وجوب القصاص ؟ ألا ترى أن العبد لو قتل عبدا ثم أعتق القاتل يقتل به قصاصا ، وإن استفاد فضل الحرية .

التالي السابق


الخدمات العلمية