بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما القتل الخطأ فيختلف حكمه باختلاف حال القاتل والمقتول فنفصل الكلام فيه فنقول : القاتل والمقتول إما أن يكونا جميعا حرين ، وإما أن كان القاتل حرا ، والمقتول عبدا ، وإما أن كان القاتل عبدا ، والمقتول حرا ، وإما أن كانا جميعا عبدين ، فإن كانا حرين فيتعلق به أحكام منها وجوب الكفارة عند وجود شرائط الوجوب ، وهي نوعان : بعضها يرجع إلى القاتل ، وبعضها إلى المقتول ، أما الذي يرجع إلى القاتل فالإسلام ، والعقل ، والبلوغ فلا تجب الكفارة على الكافر ، والمجنون ، والصبي ; لأن الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات ، والكفارة عبادة ، والصبي ، والمجنون لا يخاطبان بالشرائع أصلا .

وأما الذي يرجع إلى المقتول فهو أن يكون المقتول معصوما فلا تجب بقتل الحربي ، والباغي لعدم العصمة .

وأما كونه مسلما فليس بشرط فيجب ، سواء كان مسلما أو ذميا أو مستأمنا وسواء كان مسلما أسلم في دار الإسلام أو في دار الحرب ، ولم يهاجر إلينا ; لقوله سبحانه ، وتعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } إلى قوله تعالى { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } .

ولأن القاتل قد سلم له الحياة في الدنيا ، وهي من أعظم النعم ، ورفعت عنه المؤاخذة في الآخرة مع جواز المؤاخذة في الحكمة لما في وسع الخاطئ في الجملة حفظ نفسه عن الوقوع في الخطأ ، وهذا أيضا نعمة فكان وجوب الشكر لهذه النعمة موافقا للعقل ، فبين الله تعالى مقداره وجنسه بهذه الآية ليقدر العبد على أداء ما وجب عليه من أصل الشكر بتعظيمه العقل ; ولأن فعل الخطأ جناية ، ولله تعالى المؤاخذة عليه بطريق العدل ; لأنه مقدور الامتناع بالتكلف والجهد .

وإذا كان جناية فلا بد لها من التكفير والتوبة ، فجعل التحرير من العبد بحق التوبة عن القتل الخطأ بمنزلة التوبة الحقيقية في غيره من الجنايات ، إلا أنه جعل التحرير أو الصوم توبة له دون التوبة الحقيقية لخفة الجناية بسبب الخطأ ، إذ الخطأ معفو في الجملة ، وجائز العفو عن هذا النوع فخفت توبته لخفة في الجناية ، فكان التحرير في هذه الجناية بمنزلة التوبة في سائر الجنايات ومنها حرمان الميراث ; لأنه وجد القتل مباشرة بغير حق ، أما المباشرة فلا شك فيها .

وأما الخطر والحرمة فلأن فعل الخطأ جناية جائز المؤاخذة عليها عقلا لما بينا ، والدليل عليه قوله عز اسمه { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ولو لم يكن جائز المؤاخذة لكان معنى الدعاء اللهم لا تجر علينا ، وهذا محال ، وإنما رفع حكمها شرعا ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام وقوله عليه الصلاة والسلام { رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه } مع بقاء وصف الفعل على حاله ، وهو كونه جناية .

التالي السابق


الخدمات العلمية