بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) بيان ما تجب فيه الدية فقد اختلف أصحابنا فيه ، قال أبو حنيفة رحمه الله : الذي تجب منه الدية وتقضى منه ثلاثة أجناس : الإبل والذهب والفضة ، وعندهما ستة أجناس : الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل ، واحتجا بقضية سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فإنه روي أنه قضى بالدية من هذه الأجناس [ ص: 254 ] بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ولأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه قوله عليه الصلاة والسلام { في النفس المؤمنة مائة من الإبل } جعل عليه الصلاة والسلام الواجب من الإبل على الإشارة إليها ، فظاهره يقتضي الوجوب منها على التعيين ، إلا أن الواجب من الصنفين الأخيرين ثبت بدليل آخر ، فمن ادعى الوجوب من الأصناف الأخر فعليه الدليل .

وأما قضية سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقد قيل : إنه إنما قضى بذلك حين كانت الديات على العواقل ، فلما نقلها إلى الديوان قضى بها من الأجناس الثلاثة .

وذكر في كتاب المعاقل ما يدل على أنه لا خلاف بينهم ، فإنه قال : لو صالح الولي على أكثر من مائتي بقرة ومائتي حلة لم يجز بالإجماع ، ولو لم يكن ذلك من جنس الدية لجاز ، والله أعلم بالصواب .

وأما بيان مقدار الواجب من كل جنس ، وبيان صفته فقدر الواجب من كل جنس يختلف بذكورة المقتول وأنوثته ، فإن كان ذكرا فلا خلاف ، في أن الواجب بقتله من الإبل مائة لقوله عليه الصلاة والسلام { في النفس المؤمنة مائة من الإبل } ولا خلاف أيضا في أن الواجب من الذهب ألف دينار لما روي أنه عليه الصلاة والسلام جعل { دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار } ، والتقدير في حق الذمي يكون تقديرا في حق المسلم من طريق الأولى .

وأما الواجب من الفضة فقد اختلف فيه ، قال أصحابنا رحمهم الله تعالى : عشرة آلاف درهم وزنا وزن سبعة .

وقال مالك ، والشافعي رحمهما الله : اثنا عشر ألفا ، والصحيح قولنا لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال الدية عشرة آلاف درهم بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد ، فيكون إجماعا مع ما أن المقادير لا تعرف إلا سماعا فالظاهر أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر الواجب من البقر عندهما مائتا بقرة ، ومن الحلل مائتا حلة ، ومن الغنم ألفا شاة ، ثم دية الخطأ من الإبل أخماس بلا خلاف ، عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهذا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { دية الخطأ أخماس عشرون بنات مخاض ، وعشرون بنو مخاض ، وعشرون بنو لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة } ، وعندهما قدر كل بقرة خمسون درهما ، وقدر كل حلة خمسون درهما ، والحلة اسم لثوبين إزار ورداء ، وقيمة كل شاة خمسة دراهم .

ودية شبه العمد أرباع ، عندهما خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وهو مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعند محمد أثلاث ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة .

وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كله خلفة ، وهو مذهب سيدنا عمر ، وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ، وعن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال : في شبه العمد أثلاث ثلاثة وثلاثون حقة ، وثلاثة وثلاثون جذعة ، وأربعة وثلاثون خلفة ، والصحابة رضي الله عنهم متى اختلفت في مسألة على قولين أو ثلاثة يجب ترجيح قول البعض على البعض ، والترجيح ههنا لقول ابن مسعود رضي الله عنه لوجهين : أحدهما : أنه موافق للحديث المشهور الذي تلقته العلماء رضي الله عنهم بالقبول ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { في النفس المؤمنة مائة من الإبل } ، وفي إيجاب الحوامل إيجاب الزيادة على المائة ; لأن الحمل أصل من وجه ، والثاني : أن ما قاله أقرب إلى القياس ; لأن الحمل معنى موهوم لا يوقف عليه حقيقة فإن انتفاخ البطن قد يكون للحمل ، وقد يكون للداء ، ونحو ذلك .

وإن كان أنثى فدية المرأة على النصف من دية الرجل لإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سيدنا عمر ، وسيدنا علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت رضوان الله تعالى عليهم أنهم قالوا في دية المرأة : إنها على النصف من دية الرجل ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد فيكون إجماعا ، ولأن المرأة في ميراثها ، وشهادتها على النصف من الرجل فكذلك في ديتها وهل يختلف قدر الدية بالإسلام ، والكفر ؟ قال أصحابنا رحمهم الله : لا يختلف ودية الذمي والحربي والمستأمن كدية المسلم ، وهو قول إبراهيم النخعي والشعبي رحمهما الله ، والزهري رحمه الله .

وقال الشافعي رحمه الله : تختلف دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، ودية المجوسي ثمانمائة ، واحتج بحديث رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه جعل دية هؤلاء على هذه المراتب } ولأن الأنوثة لما أثرت في نقصان البدل فالكفر أولى ; لأن نقيصة الكفر فوق كل نقيصة .

( ولنا ) قوله تبارك وتعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله } أطلق سبحانه وتعالى [ ص: 255 ] القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل فدل أن الواجب في الكل على قدر واحد ( وروينا ) أنه عليه الصلاة والسلام جعل { دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار } ( وروي ) " أن { عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما بدية حرين مسلمين } ، وعن الزهري رحمه الله أنه قال : قضى سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما في دية الذمي بمثل دية المسلم ، ومثله لا يكذب .

وكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين ، ولأن وجوب كمال الدية يعتمد كمال حال القتيل فيما يرجع إلى أحكام الدنيا ، وهي الذكورة ، والحرية ، والعصمة ، وقد وجد ، ونقصان الكفر يؤثر في أحكام الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية