بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
والثاني : وجوب الكفارة لعموم قوله تبارك وتعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } من غير فصل بين الحر والعبد ، والله تعالى الموفق .

ولو كان المقتول مدبر إنسان أو أم ولده أو مكاتبه فحكمه حكم القن في جميع ما وصفنا ، وإن كان عبد القاتل فجناية المولى عليه هدر .

وكذا لو كان مدبره أو أم ولده لأن القيمة لو وجبت لوجبت له عليه .

وهذا ممتنع ، وإن كان مكاتبه فجناية المولى عليه لازمة ، وعلى المولى قيمته في ثلاث سنين ; لأن المكاتب فيما يرجع إلى كسبه وأرش جنايته حر فكان كسبه ، وأرشه له فالجناية عليه من المولى والأجنبي سواء ، ولا تعقلها العاقلة بل تكون على ماله لقوله عليه الصلاة والسلام { لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا } ، والمكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم ; ولأن المكاتب على ملك مولاه ، وإنما ضمن جنايته بعد الكتابة .

والعقد ثابت بينهما غير ثابت في حق العاقلة ، ولهذا لا تعقل العاقلة الاعتراف ; لأن إقرار المقر حجة في حقه لا في حق غيره .

وكذلك جناية المولى على رقيق المكاتب ، وعلى ماله لازمة لما ذكرنا أنه أحق بكسبه من المولى ، والمولى كالأجنبي فيه .

وكذا إذا كان مأذونا مديونا فعلى المولى قيمته لتعلق حق الغرماء برقبته ، وبالقتل أبطل محل حقهم فتجب عليه قيمته ، وتكون في ماله بالنص ، وتكون حالة ; لأنه ضمان إتلاف المال .

هذا إذا كان القاتل حرا والمقتول عبدا ، فأما إذا كان القاتل عبدا والمقتول حرا فالحر المقتول لا يخلو من أن يكون أجنبيا أو يكون ولي العبد ، فإن كان أجنبيا فالعبد القاتل لا يخلو من أن يكون قنا أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا ، فإن كان قلنا : يدفع إذا ظهرت جنايته إلا أن [ ص: 259 ] يختار المولى الفداء فلا بد من بيان ما تظهر به هذه الجناية ، وبيان حكم هذه الجناية ، وبيان صفة الحكم ، وبيان ما يصير به المولى مختارا للفداء ، وشرط صحة الاختيار ، وبيان صفة الفداء الواجب عند الاختيار .

أما الأول : فهذه الجناية تظهر بالبينة وإقرار المولى وعلم القاضي ، ولا تظهر بإقرار العبد محجورا كان أو مأذونا ; لأن العبد يملك بالإذن بالتجارة ما كان من مال التجارة ، والإقرار بالجناية ليس من التجارة ، وإذا لم يصح إقراره لا يؤخذ به لا في الحال ولا بعد العتاق ; لأن موجب إقراره لا يلزمه ، وإنما يلزم مولاه ، فكان هذا إقرارا على المولى حتى لو صدقه المولى صح إقراره ، وكذلك لو أقر بعد العتاق أنه كان جنى في حال الرق لا شيء عليه لما ذكرنا أن هذا إقرار له على المولى ، ألا يرى لو صدقه المولى وأقر أنه أعتقه ، وهو يعلم بالجناية فعلى المولى قيمته ؟ والله سبحانه وتعالى أعلم .

وأما حكم هذه الجناية فوجب دفع العبد إلى ولي الجناية إلا أن يختار المولى الفداء عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله حكمها تعلق الأرش برقبة العبد يباع فيه ويستوفى الأرش من ثمنه ، فإن فضل منه شيء فالفضل للمولى ، وإن لم يف ثمنه بالأرش يتبع بما بقي بعد العتاق ، وللمولى أن يستخلصه ، ويؤدي الأرش من مال آخر .

( وجه ) قوله أن الأصل في ضمان الجناية أنه يجب على الجاني ، والواجب على الإنسان إما أن يكون في ماله أو تتحمل العاقلة عنه ، والعبد لا مال له ، ولا عاقلة فتعذر الإيجاب عليه ، فتجب في رقبته ، يباع فيه كدين الاستهلاك في الأموال .

( ولنا ) إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سيدنا علي وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مثل مذهبنا بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل الإنكار عليهما من أحد منهم فيكون إجماعا منهم ، والقياس يترك بمعارضة الإجماع ، ودين الاستهلاك في باب الأموال يجب على العبد على ما عرف .

وأما صفة هذا الحكم فصيرورة العبد واجب الدفع على سبيل التعيين ، كثرت قيمة العبد أو قلت ، وعند اختيار المولى الفداء ينتقل الحق من الدفع إلى الفداء سواء كان المجني عليه واحدا أو أكثر ، غير أنه إن كان واحدا دفع إليه ، ويصير كله مملوكا له ، وإن كانوا جماعة يدفع إليهم ، وكان مقسوما بينهم على قدر أروش جنايتهم ، وسواء كان على العبد دين وقت الجناية أو لم يكن ، وبيان هذه الجملة في مسائل .

إذا مات العبد الجاني قبل اختيار الفداء بطل حق المجني عليه أصلا ; لأن الواجب دفع العبد على طريق التعيين ، وذلك لا يتصور بعد هلاك العبد فيسقط الحق أصلا ورأسا ، وهذا يدل على أن قول من يقول : " حكم هذه الجناية تخير المولى بين الدفع ، والفداء " ليس بسديد ; لأنه لو كان كذلك لتعين الفداء عند هلاك العبد ، ولم يبطل حق المجني عليه أصلا على ما هو الأصل في المخير بين شيئين إذا هلك أحدهما أنه يتعين عليه الآخر ، ولو مات بعد اختيار الفداء لا يبرأ بموت العبد ; لأنه لما اختار الفداء فقد انتقل الحق من رقبته إلى ذمة المولى فلا تحتمل السقوط بهلاك العبد بعد ذلك .

ولو كانت قيمة العبد أقل من الدية فليس على المولى إلا الدفع ; لأن وجوب الدفع حكمه لهذه الجناية ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يفصلوا بين قليل القيمة وكثيرها فلو جنى العبد على جماعة ، فإن شاء المولى دفعه إليهم ; لأن تعلق حق المجني عليه للأول لا يمنع حق الثاني والثالث ; لأن ملك المولى لما لم يمنع التعلق فالحق أولى ; لأنه دونه ، وإذا دفعه إليهم كان مقسوما بينهم بالحصص قدر أروش جنايتهم ، فإن حصة كل واحد منهم من العبد عوض عن الفائت فيتقدر بقدر الفائت ، وإن شاء أمسك العبد ، وغرم الجنايات بكمال أروشها ، ولو أراد المولى أن يدفع من العبد إلى بعضهم مقدار ما يتعلق به حقه ويفدي بعض الجنايات له ذلك ، بخلاف ما إذا كان القتيل واحدا وله وليان فأراد المولى دفع العبد إلى أحدهما ، والفداء إلى الآخر أنه ليس له ذلك ; لأن الجناية هناك واحدة ، ولها حكم واحد ، وهو وجوب الدفع على التعيين ، وعند اختيار الفداء وجوب الفداء على التعيين ، ولا يجوز أن يجمع في جناية واحدة بين حكمين مختلفين بخلاف ما إذا جنى على جماعة ; لأن الجناية هناك متعددة ، وله خيار الدفع والفداء في كل واحد منهما ، والدفع في البعض والفداء في البعض لا يكون جمعا بين حكمين مختلفين في جناية واحدة فهو الفرق ، ولو قتل إنسانا ، وفقأ عين آخر ، فإن اختار الدفع دفعه إليهما أثلاثا لتعلق حقهما بالعبد أثلاثا ، وإن اختار الفداء فدى عن كل جناية بأرشها ، وكذلك إذا شج إنسانا شجاجا مختلفة أنه إن دفع العبد إليهم كان مقسوما بينهم على قدر جناياتهم ، وإن اختار الفداء فدى عن الكل [ ص: 260 ] بأرشها .

التالي السابق


الخدمات العلمية