بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
رجل أمر غيره أن يجرحه جراحة واحدة فجرحه عشر جراحات وجرحه آخر جراحة أخرى واحدة بغير أمر ثم عفا المجروح لصاحب العشرة عن واحدة من التسع التي كانت بغير أمره ثم مات المجروح من ذلك كله فعلى صاحب الجراحة الواحدة نصف الدية وعلى صاحب العشرة ثمن الدية ; لأن نصف الدية على صاحب الجراحة الواحدة والنصف الآخر تعلق بصاحب العشرة واحدة منها بأمر المجروح فصار عليه الربع ثم انقسم ذلك بالعفو فسقط نصفه ، وهو الثمن ، وبقي عليه الثمن ، والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان المجني عليه حرا [ ص: 322 ] ذكرا فأما إذا كان أنثى حرة فإنه يعتبر ما دون النفس منها بديتها كديتها قل أو كثر عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : تعاقل المرأة الرجل فيما كان أرشه نصف عشر الدية كالسن والموضحة أي ما كان أرشه هذا القدر فالرجل والمرأة فيه سواء لا فضل للرجل على المرأة .

وعن سعيد بن المسيب أنه قال : تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث ديتها أي أرش الرجل والمرأة إلى ثلث ديتها سواء ، وهو مذهب أهل المدينة .

ويروون أنه عليه الصلاة والسلام قال { تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث ديتها } وهذا نص لا يتحمل التأويل .

واحتج ابن مسعود رضي الله عنه بحديث الغرة أنه عليه الصلاة والسلام { قضى في الجنين بالغرة } وهي نصف عشر الدية ، ولم يفصل عليه الصلاة والسلام بين الذكر والأنثى فيدل على استواء أرش الذكر والأنثى في هذا القدر .

( ولنا ) أنه بنصف بدل النفس بالإجماع ، وهو الدية ، فكذا بدل ما دون النفس ; لأن المنصف في الحالين واحد ، وهو الأنوثة ، ولهذا ينصف ما زاد على الثلث فكذا الثلث وما دونه ولأن القول بما قاله أهل المدينة يؤدي إلى القول بقلة الأرش عند كثرة الجناية وأنه غير معقول ، وإلى هذا أشار ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي - رحمه الله - فإنه روى أنه سأل سعيد بن المسيب عن رجل قطع أصبع المرأة فقال : فيها عشر من الإبل ، قال : فإن قطع ثلاثة ؟ قال : ففيها ثلاثون من الإبل ، قال : فإن قطع أربعة ؟ فقال : عشرون من الإبل ، فقال ربيعة : لما كثرت جروحها ، وعظمت مصيبتها قل أرشها ؟ فقال : أعراقي أنت ؟ قال : لا ، بل جاهل متعلم أو عالم متبين ، فقال : هكذا السنة يا ابن أخي .

وعنى به سنة زيد بن ثابت رضي الله عنه أشار ربيعة إلى ما ذكرنا من المعنى ، وقبله سعيد حيث لم يعترض عليه وأحال الحكم إلى السنة ، وبهذا تبين أن روايتهم عنه عليه عليه الصلاة والسلام لم تصح إذ لو صحت لما اشتبه الحديث على مثل سعيد ، ولأحال الحكم إلى قوله عليه الصلاة والسلام لا إلى سنة زيد فدل أن الرواية لا تكاد تثبت عنه عليه الصلاة والسلام .

وأما حديث الغرة في الجنين فنقول بموجبه أن الحكم في أرش الجنين لا يختلف بالذكورة والأنوثة وإنما الكلام في أرش المولود ، والحديث ساكت عن بيانه ، ثم نقول : احتمل أنه عليه الصلاة والسلام لم يفصل في الجنين بين الذكر والأنثى ; لأن الحكم لا يختلف ، ويحتمل أنه لم يفصل لتعذر الفصل لعدم استواء الخلقة فلا يكون حجة مع الاحتمال هذا الذي ذكرنا إذا كان الجاني حرا والمجني عليه حرا فأما إذا كان الجاني حرا والمجني عليه عبدا فالأصل فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه ما ذكرنا في الفصل المتقدم أن كل شيء من الحر فيه قدر من الدية فمن العبد فيه ذلك القدر من قيمته سواء كان فيما يقصد به المنفعة أو الجمال والزينة في رواية عنه ، وفي رواية فيما يقصد به الجمال والزينة يجب النقصان ، وعندهما في جميع ذلك يجب النقصان فيقوم العبد مجنيا عليه ، ويقوم غير مجني عليه فيغرم الجاني فضل ما بين القيمتين ، وقد بينا وجه الروايتين عنه ووجه قولهما في الفصل الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية