بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان معنى الوصية فالوصية اسم لما أوجبه الموصي في ماله بعد موته وبه تنفصل عن البيع ، والإجارة ، والهبة ; لأن شيئا من ذلك لا يحتمل الإيجاب بعد الموت ألا ترى : أنه لو أوجبها بعد الموت بطل .

وذكر الكرخي - عليه الرحمة - في حد الوصية ما أوجبه الموصي في ماله تطوعا بعد موته ، أو في مرضه الذي مات فيه فقوله : ما أوجبه الموصي في ماله تطوعا بعد موته لا يشمل جميع أفراد الوصايا فإنه لا يتناول الوصية بالقرب الواجبة التي تسقط بالموت من غير وصية : كالحج ، والزكاة ، والكفارات ، ونحوها فلم يكن الحد جامعا .

وقوله : أو في مرضه حد مقسم وأنه فاسد ، وكذا تبرع الإنسان بماله في مرضه الذي مات فيه من الإعتاق ، والهبة والمحاباة ، والكفالة وضمان الدرك لا يكون وصية حقيقة ; لأن حكم هذه التصرفات منجز نافذ في الحال قبل الموت .

وحكم الوصية يتأخر إلى ما بعد الموت فلم تكن هذه التصرفات من المريض وصية حقيقة إلا أنها تعتبر بالوصايا في حق اعتبار الثلث ، فأما أن تكون وصية حقيقة فلا ، وعلى هذا يخرج ما إذا أوصى بثلث ماله ، أو ربعه ، وقد ذكر قدرا من ماله مشاعا ، أو معينا أن قدر ما يستحقه الموصى له من مال هو : ماله الذي عند الموت لا ما كان عند الوصية حتى لو أوصى بثلث ماله ، وماله يوم أوصى ثلاثة آلاف ، ويوم مات ثلثمائة لا يستحق الموصى له إلا مائة ، ولو لم يكن له مال يوم أوصى ، ثم اكتسب مالا ، ثم مات فله ثلث المال يوم مات .

ولو كان له مال يوم أوصى فمات ، وليس له مال بطلت ، وصيته ، وإنما كان كذلك لما ذكرنا أن الوصية تمليك مضاف إلى وقت الموت ; فيستحق الموصى له ما كان على ملك الموصي عند موته ، ويصير المضاف إلى الوقت كالمنجز عنده كأنه قال عند الموت : لفلان ثلث مالي فيعتبر ما يملكه في ذلك الوقت لا ما قبله ، وذكر ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - فقال : إذا أوصى رجل فقال : لفلان شاة من غنمي ، أو نخلة من نخلي ، أو جارية من جواري ، ولم يقل : من غنمي هذه ، ولا من جواري هؤلاء ، ولا من نخلي هذه فإن الوصية في هذا تقع يوم موت الموصي ، ولا تقع يوم أوصى حتى لو ماتت غنمه تلك ، أو باعها فاشترى مكانها أخرى ، أو ماتت جواريه فاشترى غيرهن ، أو باع النخل ، واشترى غيرها ، فإن للموصى له نخلة من نخله يوم يموت .

وليس للورثة أن يعطوه غير ذلك لما بينا : أن الوصية عقد مضاف إلى الموت فكانه قال في تلك الحالة : لفلان شاة من غنمي فيستحق شاة من الموجود دون ما قبله قال : فإن ولدت الغنم قبل أن يموت الموصي ، أو ولدت الجواري قبل موته ، فلحقت الأولاد الأمهات ، ثم مات الموصي فإن للورثة أن يعطوه إن شاءوا من الأمهات ، وإن شاءوا من الأولاد ; لأن الاسم يتناول الكل عند الموت فكان المستفاد بالولادة كالمستفاد بالشراء قال فإن اختار الورثة أن يعطوه شاة من غنمه ، ولها ولد قد ولدته بعد موت الموصي فإن ولدها يتبعها .

وكذلك صوفها ، ولبنها ; لأن الوصية وإن تعلقت بشاة غير معينة لكن التعيين من الورثة يكون بيانا أن الشاة المعينة ، هي من الموصى بها كأن الوصية وقعت بهذه المعينة ابتداء فما حدث من نمائها بعد الموت يكون للموصى له قال : فأما ما ولدت قبل موت الموصي فلا يستحقه الموصى له ; لأن الوصية اعتبارها عند الموت فالحادث قبل الموت يحدث على ملك الورثة ، وكذلك الصوف المنفصل ، واللبن المنفصل قبل الموت لما قلنا ، فأما إن كان متصلا بها فهو للموصى له ، وإن حدث قبل الموت ; لأنه لا ينفرد عنها بالتمليك قال : ولو استهلكت الورثة لبن الشاة ، أو صوفها ، وقد حدث بعد الموت فعليهم ضمانه ; لأن الموصى له ملكه بملك الأصل ، فيكون مضمونا بالإتلاف قال : ولو قال : أوصيت له بشاة من غنمي هذه ، أو بجارية من جواري هؤلاء ، أو قال : قد أوصيت له بإحدى جاريتي هاتين فهذا على هذه الغنم ، وهؤلاء الجواري ; لأنه عين الموصى به ، وهو الشاة من الغنم المشار إليها حتى لو ماتت الغنم ، أو باعها بطلت الوصية كما لو قال أوصيت بهذه الشاة ، أو بهذه الجارية فهلكت .

ولو ولدت الغنم أو الجواري في حال [ ص: 334 ] حياة الموصي ، ثم أراد الورثة أن يعطوه من الأولاد ليس لهم ذلك ; لأن الوصية تعلقت بعين مشار إليها ، وإن لم يثبت الملك فيها ينزل في غيرها ، فإن دفع الورثة إليه جارية من الجواري لم يستحق ما ولدت قبل الموت ; لأن الوصية لم تكن ، وجبت فيها ; لأن الملك في الوصية إنما ينقل بالموت فما حدث قبل الموت يحدث على ملك الميت ، فيكون للورثة ، وما ولدت بعد الموت فهو للموصى له ; لأنه ملكها بالموت فحدث الولد على ملكه قال : فإن ماتت الأمهات كلها إلا واحدة تعينت الوصية فيها ; لأنه لم يبق من يزاحمها في تعلق الوصية فتعينت ضرورة انتفاء المزاحم ، فإن ماتت الأمهات كلها ، وقد بقي لها أولاد حدثت بعد الموت ، أو أحرق النخل ، وبقي لها ثمر حدث بعد الموت فعلى الورثة أن يدفعوا إليه ولد جارية ، وثمرة نخلة ; لأن الوصية كانت متعلقة بها فيظهر الاستحقاق في الولد الحادث بعده ، فإذا هلكت الأم بقي الحق في الولد على حاله ، ولا يظهر فيما حدث قبل الموت ، والله - سبحانه وتعالى عز وجل - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية