بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ولو أوصى ليتامى بني فلان فإن كان يتاماهم يحصون جازت الوصية ; لأنهم إذا كانوا يحصون ، وقعت الوصية لهم بأعيانهم ; لكونهم معلومين ، فأمكن إيقاعها تمليكا منهم ، فصحت كما لو أوصى ليتامى هذه السكة ، أو هذه الدار ، ويستوي فيها الغني والفقير ; لأن اليتيم في اللغة اسم لمن مات أبوه ، ولم يبلغ الحلم ، وهذا لا يتعرض للفقر والغنى .

وقال الله سبحانه وتعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما }

وقال عليه الصلاة والسلام { ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كي لا تأكلها الصدقة } قد سموا يتامى ، وإن كان لهم مال ، فكل صغير مات أبوه يدخل تحت الوصية ، ومن لا فلا ، فإن كانوا لا يحصون ، فالوصية جائزة ، وتصرف إلى الفقراء منهم ; لأنها لو صرفت إلى الأغنياء لبطلت لجهالة الموصى له ، ولو صرفت إلى الفقراء لجازت ; لأنها وصية بالصدقة ، وإخراج للمال إلى الله تعالى ، والله تعالى واحد معلوم ، وأمكن أن تجعل الوصية للفقراء ، وإن لم يكن في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة لغة لكنه ينبئ عن سبب الحاجة ، وعما يوجب الحاجة بطريق الضرورة ; لأن الصغر والانفراد عن الأب أعظم أسباب الحاجة إذ الصغير عاجز عن الانتفاع بماله ، ولا بد له ممن يقوم بإيصال منافع ماله إليه ، وكذا هو عاجز عن القيام بحفظ ماله ، واستنمائه ، ولا بقاء للمال عادة إلا بالحفظ والاستنماء ، وهو عاجز عن ذلك كله ، فيصير في الحكم كمن انقطعت عليه منافع ماله بسبب بعده عن ماله ، وهو ابن السبيل ، فصار الاسم بهذه الوساطة منبئا عن الحاجة ; ولهذا المعنى جعل الله لليتامى سهما من خمس الغنيمة بقوله تبارك وتعالى { ، واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى } .

وقال تبارك وتعالى { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى } ، وأراد به المحتاجين منهم دون الأغنياء .

وإذا كان كذلك أمكن تصحيح هذا التصرف بجعله إيصاء بالصدقة .

وكذلك إذا أوصى لزمنى بني فلان أو لعميانهم ; لأن الاسم يدل على سبب الحاجة عادة ، وهو الزمانة ، والعمى ، بخلاف ما إذا أوصى لبني فلان ، وهم لا يحصون إنه لا يصح ; لأنه لا يمكن تصحيحه بطريق التمليك بجهالة الموصى لهم ، ولا بطريق الإيصاء بالصدقة ; لأنه ليس في لفظ الابن ما ينبئ عن الحاجة ، ولا ما يوجب الحاجة ، وههنا ، بخلافه على ما بينا ، فتصح الوصية ، ثم إذا صحت ، وانصرفت الوصية إلى الفقراء من اليتامى ، فإن صرف إلى اثنين منهم فصاعدا ; جاز بالإجماع ، وإن صرف جميع الثلث إلى ، واحد ; فهو على الخلاف الذي ذكرنا ، والأفضل للموصي أن يصرف إلى كل من قدر منهم ; لأنه أقرب إلى العمل بحقيقة اللفظ ، وتحقيق مقصود الموصي ، ولو أوصى بثلث ماله لأرامل بني فلان ; جازت الوصية سواء كن يحصين ، أو لا يحصين أما إذا كن يحصين ، فلا يشكل ، فإن الوصية وقعت تمليكا منهن بأعيانهن ; لكونهن معلومات .

وكذلك إذا كن لا يحصين ; لأن في الاسم ما يدل على الحاجة ; لأن الأرملة اسم لامرأة بالغة ، فارقت زوجها بطلاق أو وفاة دخل بها أو لم يدخل كذا قال محمد - رحمه الله - .

وقال ابن الأنباري : الأرملة التي لا زوج لها من قولهم أرمل القوم ، فهم مرملون إذا فني زادهم ومن فني زاده كان محتاجا ، فكان في الاسم ما ينبئ عن الحاجة ، فتقع وصية بالصدقة ، وإخراج المال إلى الله تبارك وتعالى والله سبحانه وتعالى واحد معلوم وهل يدخل في هذه الوصية الرجال الذين فارقوا أزواجهم ؟ قال عامة العلماء : رضي الله عنهم لا يدخلون .

وقال الشافعي : - رحمه الله - يدخل في كل من خرج من كرمة فلان ذكرا كان أو أنثى ، وإليه ذهب القتبي ، واحتجا بقول جرير الشاعر [ ص: 347 ]

هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ، فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

أطلق اسم الأرمل على الرجل .

( ولنا ) أن حقيقة هذا الاسم للمرأة لما ذكرنا عن محمد ، وهو من كبار أهل اللغة روى عنه أبو عبيد وأبو العباس ثعلب وأقرانهم كما روينا عن الخليل ، والأصمعي ، وأقرانهما .

وقال الخليل : يقال : امرأة أرملة ، ولا يقال : رجل أرمل إلا في المليح من الشعر .

وقال ابن الأنباري رحمه الله لا يقال : رجل أرمل إلا في الشعر ، ونحو ذلك ، ولأن الاسم لما كان مشتقا من قولهم أرمل القوم إذا ، فني زادهم ، فالمرأة هي التي فني زادها بموت زوجها ; لأن النفقة على الزوج لا على المرأة ، فإذا مات ، فقد فني زادها ، وبه تبين أن قول جرير محمول على مليح الشعر كما قال الخليل أو هو شاذ كما قال ابن الأنباري ، أو لازدواج الكلام قال الله سبحانه وتعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .

وقال تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، وقوله سبحانه وتعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } .

وكما قال الشاعر :

، فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي     مدى الدهر ما لم تنكحي أتأيم

( ومعلوم ) أن الرجل لا يسمى أيما لكن أطلق عليه لازدواجه بقوله ، وإن تتأيمي كذا ههنا ، وإطلاق الاسم لا ينصرف إلى ما لا يذكر إلا لضرورة تمليح الشعر ، وازدواج الكلام ، أو في الشذوذ ; لأن مطلق الاسم ينصرف إلى ما تتسارع إليه الأفهام والأوهام ، وذلك ما قلنا ، ولو أوصى لأيامى بني فلان ، فإن كن يحصين ; جازت الوصية لما قلنا ، وإن كن لا يحصين لا تجوز ; لأنه ليس في لفظ الأيم ما ينبئ عن الحاجة لتجعل ، وصيته بالصدقة ; لأن الأيم في اللغة اسم لامرأة جومعت في قبلها ، وفارقها زوجها ، وشرحه محمد - رحمه الله - قال الأيم كل امرأة جومعت بنكاح جائز أو فاسد أو فجور ، ولا زوج لها غنية كانت أو فقيرة صغيرة كانت أو كبيرة ، وليس في هذه المعاني ما ينبئ عن الحاجة ، فلا يكون إيصاء بالتصدق ، بخلاف الوصية لأرامل بني فلان ، وهن لا يحصين إنها جائزة ; لأن اسم الأرملة ينبئ عن الحاجة على ما بينا ، فجعل وصية بالصدقة ، ثم إذا كن يحصين حتى جازت الوصية يدخل فيها الصغيرة ، والبالغة ، والغنية والفقيرة ; لأن الاسم في اللغة لا يتعرض لما سوى الأنوثة وحلول الجماع بها في قبلها وفراقها زوجها .

وقال الله تبارك وتعالى { ، وأنكحوا الأيامى منكم } ، وأنه يتناول الكبيرة والصغيرة حتى يجوز إنكاح الصغار ، كما يجوز إنكاح الكبار ، وكذا لا يتعرض للفقر والغنى ; لأنه سبحانه وتعالى قال عز من قائل { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } ، ولو كان متعرضا لشيء من ذلك لم يكن لقوله سبحانه ، وتعالى { إن يكونوا فقراء } معنى ، وهذا الذي ذكرنا أن الأيم اسم لامرأة جومعت في قبلها ، فارقها زوجها قول عامة المسلمين .

وقال أبو القاسم الصفار البلخي ، وأبو الحسن الكرخي - رحمهما الله - إن الجماع ليس بشرط لثبوت هذا الاسم .

وكذا الأنوثة بل يقع هذا الاسم على المدخول بها وعلى البكر ، ويقع على الرجل كما يقع على المرأة ، واحتجا بقول الشاعر

إن القبور تنكح الأيامى     النسوة الأرامل اليتامى

، ومعلوم أن القبر يضم البكر إلى نفسه كما يضم الثيب .

وقال الشاعر :

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي     مدى الدهر ما لم تنكحي أتأيم

أي أمكث بلا زوج ما مكثت أنت بلا زوج .

وقال آخر :

فلا تنكحن جبارة إن شرها     عليك حرام فانكحن أو تأيما

، والجواب أن حقيقة اللغة ما حكينا عن نقلة اللغة ، وهم أهل دقائق الألفاظ ، فيقبل نقلهم إياه فيما وضعت له ، وما ورد في استعمال بعض الفصحاء معدولا به عن تلك الحقائق ، فحمل على المجاز إما بطريق المقابلة ، والازدواج أو باعتبار بعض المعاني التي وضع لها الاسم ، والدليل على أن الأنوثة أصل ، وأنه لا يقع على الذكر أنه لا يدخل علامة التأنيث فيه يقال : امرأة أيم ، ولا يقال أيمة ، ولو كان الاسم يتناول الذكر ، والأنثى لفرقوا بينهما بإدخال علامة التأنيث في المرأة ، وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني أن ما ذكر محمد في صفة الأيم جومعت بفجور ، أو غير فجور مذهبهما ، فأما عند أبي حنيفة - رحمه الله - التي جومعت بفجور لا تدخل في هذه الوصية ; لأن التي جومعت بفجور بكر لا أيم عنده حتى [ ص: 348 ] تزوج ، كما تزوج الأبكار عنده ، ومنهم من قال : هذا قولهم جميعا ; لأنها أيم حقيقة لوجود الجماع إلا أنها تزوج كما تزوج الأبكار عنده لمشاركتها الأبكار عنده في المعنى الذي أقيم فيه السكوت مقام الرضا نطقا في حقها باعتبار السكوت ، وهو الحياء على ما عرف في مسائل الخلاف ، ولو أوصى لكل ثيب من بني فلان إن كن يحصين صحت الوصية لما ذكرنا في المسائل المتقدمة ، ويدخل تحت هذه الوصية كل امرأة جومعت بحلال أو حرام لها زوج ، أو لم يكن لها زوج بلغت مبلغ النساء ، أو لم تبلغ كذا ذكر محمد ، ويدخل فيه الفقيرة والغنية والصغيرة والكبيرة ; لأن اللفظ لا يتعرض لذلك .

وقال الله تبارك وتعالى { ثيبات ، وأبكارا } أدخل فيه الصغار والكبار ، والفقيرات والغنيات يدل عليه أنهن دخلن فيما يقابله ، وهو قوله سبحانه وتعالى ، وأبكارا فكذا في قوله تعالى ثيبات فدل الأمر على اشتراط الدخول ; لأنه قابل الثيبات بالأبكار ، وهن اللاتي لم يجامعن ، فكانت الثيبات اللاتي جومعن لتصح المقابلة ، ولا تشترط مفارقتها زوجها ، بخلاف الأرملة ; لأن اللغة كذا تقتضي ، فيتبع فيه وضع أرباب اللغة ، ولا يدخل فيه الرجل ; لأن هذا الاسم لا يتناول الرجل حقيقة ، وإن ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة } ; لأن ذلك إطلاق بطريق المجاز للازدواج والمقابلة ، وإن كن لا يحصين لم تجز الوصية ; لأنه ليس في الاسم ما ينبئ عن الحاجة لما ذكرنا أنه اسم لأنثى من بنات آدم عليه الصلاة والسلام جومعت ، وليس في الأوصاف المذكورة في الحد ما ينبئ عن الحاجة ، فلا يراد بهذه الوصية إلا التمليك والمتملك مجهول ، فلا يصح ، ولو أوصى لكل بكر من بني فلان يجوز إذا كن محصوات لما قلنا ، ويدخل فيه الصغيرة والكبيرة الغنية والفقيرة إذ البكر اسم لامرأة لم تجامع بنكاح ، ولا غيره كذا قال محمد - رحمه الله - ، وإطلاق هذا الاسم على الذكر في الحديث ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام } بطريق المجاز ، وهو المجاز بطريق المقابلة والازدواج ، أو كان لها حقيقة ، ثم غلب استعماله في متعارف الخلق على الأنثى ، فصار بحال لا تنصرف أوهام الناس عند إطلاقه إلا إلى الأنثى ، فيحمل الحديث على المجاز ، ولو كانت عذرتها زالت بالوضوء أو بالوثبة ، أو بذرور الدم تستحق الوصية ; لأنها لم تجامع ومن الناس من خالف محمدا - رحمه الله - قالوا إن هذه أيضا لا تستحق الوصية ; لأنها ليست ببكر ، والصحيح ما ذكره محمد رحمه الله لما ذكرنا ، وذكر محمد رحمه الله أن التي زالت بكارتها بفجور لا تكون بكرا ، ولا تكون لها ، وصية .

وقال بعض مشايخنا منهم الفقيه أبو جعفر الهندواني - رحمه الله - : إن هذا قولهما ( فأما ) عند أبي حنيفة - رحمه الله - ، فإنها بكر ، وتستحق الوصية ، ومنهم من قال : لا خلاف في أنها لا تستحق الوصية ; لأنها ليست ببكر حقيقة لعدم حد البكارة ، وإنما تزوج تزوج الأبكار عند أبي حنيفة - رحمه الله - لما ذكرنا ، والله سبحانه ، وتعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية