بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وبيان هذه الجملة : أن الوصايا إذا اجتمعت فالثلث لا يخلو : إما إن كان يسع كل الوصايا ، وإما أن لا يسع الكل ، فإن كان يسع الكل تنفذ الوصية من الثلث في الكل ; لأن الوصية تعلقت بالكل ، وأمكن تنفيذها في الكل فتنفذ سواء كانت الوصايا لله - تبارك وتعالى - كالوصية بالقرب من الوصية بالحج الفرض ، والزكاة ، والصوم ، والصلاة ، والكفارات ، والنذور وصدقة الفطر ، والأضحية ، وحج التطوع وصوم التطوع ، وبناء المساجد ، وإعتاق النسمة ، وذبح البدنة ، ونحو ذلك أو كانت للعباد كالوصية لزيد ، وعمرو ، وبكر ، وخالد .

وكذلك لو كان الثلث لا يسع الكل لكن الورثة أجازت ( فأما ) إذا كان الثلث لا يسع ، ولم تجز الورثة ; فالوصايا لا تخلو : ( إما ) إن كانت كلها لله - تعالى - عز وجل - ، وهي الوصية بالقرب ، أو كان بعضها لله - تعالى - ، والبعض للعباد ، فإن كان الكل لله - تعالى - فلا يخلو ( إما ) إن كان الكل فرائض أو واجبات ، أو نوافل أو اجتمع في الوصايا من كل جنس من الفرائض ، والواجبات ، والتطوعات .

فإن كان الكل فرائض متساوية يبدأ بما قدمه الموصي ; لأن عند تساويهما لا يمكن الترجيح بالذات فيرجح بالبداية ; لأن البداية دليل اهتمامه بما بدأ به ; لأن الإنسان يبدأ بالأهم فالأهم عادة ، واختلفت الرواية عن أبي يوسف في الحج ، والزكاة روي عنه أنه يبدأ بالحج ، وإن أخره الموصي في الذكر ، وروي عنه أنه يبدأ بالزكاة ، وهو قول محمد .

( وجه ) الرواية الأولى : أن الحج عبادة بدنية ، والزكاة عبادة مالية ، والعبادة البدنية أولى ; لأن النفس أنفس ، وأعز من المال فكان تقربا إلى الله - تبارك وتعالى - بأعز الأشياء ، وأنفسها عنده فكان أقوى فكانت البداية به أولى على أن الحج عبادة بدنية لها تعلق بالمال ، والزكاة عبادة مالية لا تعلق لها بالبدن فكان الحج أقوى فكان أولى بالتقدم .

( وجه ) الرواية الأخرى : أن الحج تمحض حقا لله - تعالى - .

والزكاة يتعلق بها حق العبد فيقدم لحاجة العبد ، وغنى الله - عز وجل - .

وقالوا في الحج ، والزكاة : إنهما [ ص: 372 ] يقدمان على الكفارات ; لأنهما واجبان بإيجاب الله ابتداء من غير تعلق وجوبهما بسبب من جهة العبد ، والكفارات يتعلق وجوبها بأسباب توجد من العبد من القتل ، والظهار ، واليمين ، والواجب ابتداء أقوى فيقدم ، والكفارات متقدمة على صدقة الفطر ; لأن صدقة الفطر واجبة ، والكفارات فرائض ، والفرض مقدم على الواجب ; ولأن هذه الكفارات منصوص عليها في الكتاب العزيز ، ولا نص في الكتاب على صدقة الفطر ، وإنما عرفت بالسنة المطهرة ، فكان المنصوص عليه في الكتاب العزيز أقوى فكان أولى وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية ، وإن كانت الأضحية أيضا واجبة عندنا لكن صدقة الفطر متفق على وجوبها ، والأضحية وجوبها محل الاجتهاد فالمتفق على الوجوب أقوى فكان بالبداية أولى ، وكذا صدقة الفطر مقدمة على كفارة الفطر في رمضان ; لأن وجوب تلك الكفارة ثبت بخبر الواحد وصدقة الفطر ثبت وجوبها بأخبار مشهورة .

والثابت بالخبر المشهور أقوى فيقدم .

وقالوا : إن صدقة الفطر تقدم على المنذور به ; لأنها وجبت بإيجاب الله - تبارك وتعالى - ابتداء ، والمنذور به ، وجب بإيجاب العبد ، وقد تعلق وجوبه أيضا بسبب مباشرة العبد فتقدم الصدقة ، والإشكال عليه : أن صدقة الفطر من الواجبات لا من الفرائض ; لأن وجوبها ثبت بدليل مقطوع به بل بدليل فيه شبهة العدم ، ولهذا لا يكفر جاحده ، والوفاء بالمنذور به فرض ; لأنه وجوبه ثبت بدليل مقطوع به ، وهو النص المفسر من الكتاب العزيز قال الله - تبارك وتعالى - { ، وليوفوا نذورهم } ، والفرض مقدم على الواجب ، ولهذا يكفر جاحد وجوب الوفاء بالنذر ، وفي كتاب الله - عز وجل - دليل عليه ، وهو قوله - سبحانه وتعالى - { ومنهم من عاهد الله لإن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } ، والمنذور به مقدم على الأضحية ; لأنه واجب الوفاء بيقين وفي وجوب الأضحية شبهة العدم لكونه محل الاجتهاد .

والأضحية تقدم على النوافل ; لأنها واجبة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وسنة مؤكدة عندهما ، والشافعي - رحمه الله - ، والواجب ، والسنة المؤكدة أولى من النافلة ، فالظاهر من حال الموصي أنه قصد تقديمها على النافلة تحسينا للظن بالمسلم إلا أنه تركه سهوا فيقدم بدلالة حالة التقديم ، وإن أخره بالذكر على سبيل السهو ، هذا الذي ذكرنا ، إذا لم يكن في الوصايا بالقرب إعتاق منجز ، وهو الإعتاق في مرض الموت ، أو إعتاق معلق بالموت ، وهو التدبير ، فإن كان تقدم ذلك ; لأن الإعتاق المنجز ، والمعلق بالموت لا يحتمل الفسخ فكان أقوى فيقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية