بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وقياس ما ذكرنا أنه لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر لتغير طعم الماء ، وصيرورته مغلوبا بطعم التمر ، فكان في معنى الماء المقيد ، وبالقياس أخذ أبو يوسف وقال لا يجوز التوضؤ به ، إلا أن أبا حنيفة ترك القياس بالنص ، وهو حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجوز التوضؤ به .

وذكر في الجامع الصغير أن المسافر إذا لم يجد الماء ووجد نبيذ التمر توضأ به ، ولم يتيمم ، وذكر في كتاب الصلاة يتوضأ به ، وإن تيمم معه أحب إلي وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجمع بينهما لا محالة ، وهو قول محمد .

وروى نوح في الجامع المروزي عن أبي حنيفة أنه رجع عن ذلك وقال : لا يتوضأ به ، ولكنه يتيمم ، وهو الذي استقر عليه قوله ، كذا قال نوح وبه أخذ أبو يوسف ، ومالك ، والشافعي ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } نقل الحكم من الماء المطلق إلى التراب فمن نقله إلى النبيذ ، ثم من [ ص: 16 ] النبيذ إلى التراب فقد خالف الكتاب ، وهؤلاء طعنوا في حديث عبد الله بن مسعود من وجوه : ( أحدها ) : أنهم قالوا : رواه أبو فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود ، وأبو فزارة هذا كان نباذا بالكوفة ، وأبو زيد مجهول ( ومنها ) : أنه قيل لعبد الله بن مسعود : هل كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال : ليتني كنت .

وسئل تلميذه علقمة هل كان صاحبكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال : وددنا أنه كان ( ومنها ) : أنه من أخبار الآحاد ورد على مخالفة الكتاب ، ومن شرط ثبوت خبر الواحد أن لا يخالف الكتاب ، فإذا خالف لم يثبت أو ثبت لكنه نسخ به ، لأن ليلة الجن كانت بمكة ، وهذه الآية نزلت بالمدينة .

وجه رواية الحسن ، وهو قول محمد أنه قام ههنا دليلان أحدهما : أنه يقتضي وجوب الوضوء بنبيذ التمر ، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، والآخر يقتضي وجوب التيمم ، وهو قوله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ، والعمل بالدليلين واجب إذا أمكن العمل بهما .

وههنا أمكن ، إذ لا تنافي بين وجوب الوضوء ، والتيمم فيجمع بينهما كما في سؤر الحمار ، ولأبي حنيفة ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : { كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا في بيت ، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليقم منكم من ليس في قلبه مثقال ذرة من كبر فقمت ، وفي رواية فلم يقم منا أحد ، فأشار إلي بالقيام فقمت ، ودخلت البيت ، فتزودت بإداوة من نبيذ فخرجت معه فخط لي خطا وقال : إن خرجت من هذا لم ترني إلى يوم القيامة ، فقمت قائما ، حتى انفجر الصبح فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرق جبينه ، كأنه حارب جنا ، فقال لي : يا ابن مسعود هل معك ماء أتوضأ به ؟ فقلت لا إلا نبيذ تمر في إداوة فقال ثمرة طيبة ، وماء طهور فأخذ ذلك ، وتوضأ به ، وصلى الفجر } .

وكذا جماعة من الصحابة منهم علي ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم كانوا يجوزون التوضؤ بنبيذ التمر .

وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { نبيذ التمر وضوء من لم يجد الماء } .

وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { توضئوا بنبيذ التمر ، ولا تتوضئوا باللبن } .

وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال : كنت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة في البحر فحضرت الصلاة ففني ماؤهم ، ومعهم نبيذ التمر فتوضأ بعضهم بنبيذ التمر ، وكره التوضؤ بماء البحر ، وتوضأ بعضهم بماء البحر ، وكره التوضؤ بنبيذ التمر وهذا حكاية الإجماع فإن من كان يتوضأ بماء البحر كان يعتقد جواز التوضؤ بماء البحر فلم يتوضأ بنبيذ التمر لكونه واجدا للماء المطلق ، ومن كان يتوضأ بالنبيذ كان لا يرى ماء البحر طهورا ، أو كان يقول هو ماء سخطة ، ونقمة ، كأنه لم يبلغه قوله { صلى الله عليه وسلم في صفة البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته } .

فتوضأ بنبيذ التمر لكونه عادما للماء الطاهر ، وبه تبين أن الحديث ورد مورد الشهرة ، والاستفاضة حيث عمل به الصحابة رضي الله عنهم ، وتلقوه بالقبول فصار موجبا علما استدلاليا كخبر المعراج ، والقدر خيره ، وشره من الله ، وأخبار الرؤية ، والشفاعة ، وغير ذلك مما كان الراوي في الأصل واحدا ، ثم اشتهر ، وتلقته العلماء بالقبول ، ومثله مما ينسخ به الكتاب مع أنه لا حجة لهم في الكتاب ; لأن عدم نبيذ التمر في الأسفار يسبق عدم الماء عادة ; لأنه أعسر وجودا ، وأعز إصابة من الماء فكان تعليق جواز التيمم بعدم الماء تعليقا بعدم النبيذ دلالة ، فكأنه قال : " فلم تجدوا ماء ولا نبيذ تمر فتيمموا " إلا أنه لم ينص عليه لثبوته عادة .

يؤيد هذا ما ذكرنا من فتاوى نجباء الصحابة رضي الله عنهم في زمان انسد فيه باب الوحي مع أنهم كانوا أعرف الناس بالناسخ ، والمنسوخ ، فبطل دعوى النسخ ، وما ذكروا من الطعن في الراوي ، أما أبو فزارة فقد ذكره مسلم في الصحيح ، فلا مطعن لأحد فيه ، وأما أبو زيد فقد قال صاعد ، وهو من زهاد التابعين : وأما أبو زيد فهو مولى عمرو بن حريث فكان معروفا في نفسه ، وبمولاه فالجهل بعدالته لا يقدح في روايته على أنه قد روي هذا الحديث من طرق أخر غير هذا الطريق لا يتطرق إليها طعن .

وقولهم : إن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن دعوى باطلة لما روينا أنه تركه في الخط ، وكذا روي كونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر آخر أجمع الفقهاء على العمل به ، وهو أنه طلب منه أحجارا للاستنجاء فأتاه بحجرين وروثة ، فألقى الروثة ، وقال : إنها [ ص: 17 ] رجس أو ركس والدليل عليه أنه روي أنه لما رأى أقواما من الزط بالعراق قال : ما أشبه هؤلاء بالجن ليلة الجن .

وفي رواية أنه مر بقوم يلعبون بالكوفة فقال : ما رأيت أحدا أشبه بهؤلاء من الجن الذين رأيتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وما روي أنه قال : ليتني كنت معه ، وأن علقمة قال : وددنا أن يكون معه فمحمول على الحال التي خاطب فيها الجن أي ليتني كنت معه وقت خطابه الجن ، ووددنا أن يكون معه وقت ما خاطب الجن .

التالي السابق


الخدمات العلمية