بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يكره منها فيكره للإمام أن يصلي شيئا من السنن في المكان الذي صلى فيه المكتوبة ; لما ذكرنا فيما تقدم ، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر } ولا يكره ذلك للمأموم ; لأن الكراهة في حق الإمام للاشتباه وهذا لا يوجد في حق المأموم ، لكن يستحب له أن يتنحى أيضا حتى تنكسر الصفوف ويزول الاشتباه على الداخل من كل وجه على ما مر .

ويكره أن [ ص: 286 ] يصلي شيئا منها والناس في الصلاة ، أو أخذ المؤذن في الإقامة إلا ركعتي الفجر فإنه يصليهما خارج المسجد ، وإن فاتته ركعة من الفجر ، فإن خاف أن تفوته الفجر تركهما وجملة الكلام فيه أن الداخل إذا دخل المسجد للصلاة لا يخلو إما أن كان يصلي المكتوبة ، وإما أن كان لم يصل ، وإما أن كان لم يصلها فلا يخلو إما أن دخل المسجد وقد أخذ المؤذن في الإقامة ، أو دخل المسجد وشرع في الصلاة ثم أخذ المؤذن في الإقامة فإن دخل وقد كان المؤذن أخذ في الإقامة يكره له التطوع في المسجد سواء كان ركعتي الفجر ، أو غيرهما من التطوعات ; لأنه يتهم بأنه لا يرى صلاة الجماعة ، وقد قال النبي : صلى الله عليه وسلم { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم } .

وأما خارج المسجد فكذلك في سائر التطوعات .

وأما في ركعتي الفجر فالأمر فيه على التفصيل الذي ذكرنا ; لأن إدراك فضيلة الافتتاح أولى من الاشتغال بالنفل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { تكبيرة الافتتاح خير من الدنيا وما فيها } وليست هذه المرتبة لسائر النوافل ، وفي الاشتغال باستدراكها فوات النوافل ، وفي الاشتغال باستدراك النوافل فوتها وهي أعظم ثوابا فكان إحراز فضيلتها أولى ، بخلاف ركعتي الفجر فإن الترغيب فيهما قد وجد حسبما وجد في تكبيرة الافتتاح قال صلى الله عليه وسلم : { ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها } فقد استويا في الدرجة واختلف تخريج مشايخنا في ذلك منهم من قال : موضوع المسألة أن الرجل إذا انتهى إلى الإمام وقد سبقه بالتكبير وشرع في قراءة السورة فيأتي بركعتي الفجر لينال هذه الفضيلة عند فوت تلك الفضيلة ; لأن إدراك تكبيرة الافتتاح غير موهوم ، فإذا عجز عن إحراز إحدى الفضيلتين يحرز الأخرى ، فإذا كان الإمام لم يأت بتكبيرة الافتتاح بعد يشتغل بإحرازها ; لأنها عند التعارض تأيدت بالانضمام إلى فضيلة الجماعة ، فكان إحرازها أولى ، غير أن موضوع المسألة على خلاف هذا فإن محمدا وضع المسألة فيما إذا أخذ المؤذن في الإقامة ومع ذلك قال : إنه يشتغل بالتطوع إذا كان يرجو إدراك ركعة واحدة ، وإن استويا في الدرجة على ما مر ، والوجه فيه أنه لو اشتغل بإحراز فضيلة تكبيرة الافتتاح لفاتته فضيلة ركعتي الفجر أصلا .

ولو اشتغل بركعتي الفجر لما فاتته فضيلة تكبيرة الافتتاح من جميع الوجوه ; لأنها باقية من كل وجه ما دامت الصلاة باقية ; لأن تكبيرة الافتتاح هي التحريمة ، وهي تبقى ما دامت الأركان باقية فكانت تكبيرة الافتتاح باقية ببقاء التحريمة من وجه ، فصار مدركا من وجه وصار مدركا أيضا فضيلة الجماعة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { من أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها } ; ولأنه أدرك أكثر الصلاة ; لأن الفائت ركعة لا غير ، والمستدرك ركعة وقعدة ، وللأكثر حكم الكل فكان الاشتغال بركعتي الفجر أولى بخلاف ما إذا كان يخاف فوت الركعتين جميعا ; لأنهما إذا فاتتا لم يبق شيء من الأركان الأصلية .

ولو بقي شيء قليل لا عبرة له بمقابلة ما فات ; لأنه أقل ، والفائت أكثر وللأكثر حكم الكل فعجز عن إحرازهما فيختار تكبيرة الافتتاح لما انضم إلى إحرازها فضيلة الجماعة في الفرض ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول { تفضل الصلاة بجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة وفي رواية بسبع وعشرين درجة } فكان هذا أولى والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية