بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
مطلب غسل الوجه ( وأما ) أركان الوضوء فأربعة : ( أحدها ) : غسل الوجه مرة واحدة ، لقوله تعالى { فاغسلوا وجوهكم } ، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار ، ولم يذكر في ظاهر الرواية حد الوجه ، وذكر في غير رواية الأصول أنه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن ، وإلى شحمتي الأذنين ، وهذا تحديد صحيح ; لأنه تحديد الشيء بما ينبئ عنه اللفظ لغة ; لأن الوجه اسم لما يواجه الإنسان ، أو ما يواجه إليه في العادة ، والمواجهة تقع بهذا المحدود ، فوجب غسله قبل نبات الشعر ، فإذا نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء ، وقال أبو عبد الله البلخي : إنه لا يسقط غسله وقال الشافعي : إن كان الشعر كثيفا يسقط ، وإن كان خفيفا لا يسقط .

وجه قول أبي عبد الله أن ما تحت الشعر بقي داخلا تحت الحد بعد نبات الشعر ، فلا يسقط غسله وجه قول الشافعي أن السقوط لمكان الحرج ، ، والحرج في الكثيف لا في الخفيف .

( ولنا ) أن الواجب غسل الوجه ، ولما نبت الشعر خرج ما تحته من أن يكون وجها ، لأنه لا يواجه إليه ، فلا يجب غسله ، وخرج الجواب عما قاله أبو عبد الله ، وعما قاله الشافعي أيضا ، لأن السقوط في الكثيف ليس لمكان الحرج ، بل لخروجه من أن يكون وجها لاستتاره بالشعر ، وقد وجد ذلك في الخفيف ، وعلى هذا الخلاف غسل ما تحت الشارب والحاجبين .

وأما الشعر الذي يلاقي الخدين ، وظاهر الذقن ، فقد روى ابن شجاع عن الحسن عن أبي حنيفة ، وزفر ، أنه إذا مسح من لحيته ثلثا ، أو ربعا جاز ، وإن مسح أقل من ذلك لم يجز .

وقال أبو يوسف إن لم [ ص: 4 ] يمسح شيئا منها جاز ، وهذه الروايات مرجوع عنها ، ، والصحيح أنه يجب غسله ; لأن البشرة خرجت من أن تكون وجها ، لعدم معنى المواجهة لاستتارها بالشعر ، فصار ظاهر الشعر الملاقي لها هو الوجه ، لأن المواجهة تقع إليه ، وإلى هذا أشار أبو حنيفة فقال : وإنما مواضع الوضوء ما ظهر منها ، والظاهر هو الشعر لا البشرة ، فيجب غسله ، ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية عندنا ، وعند الشافعي يجب ( له ) أن المسترسل تابع لما اتصل ، والتبع حكمه حكم الأصل .

و ( لنا ) أنه إنما يواجه إلى المتصل عادة ، لا إلى المسترسل ، فلم يكن المسترسل وجها ، فلا يجب غسله ، ويجب غسل البياض الذي بين العذار والأذن ، في قول أبي حنيفة ، ومحمد .

وروي عن أبي يوسف أنه لا يجب لأبي يوسف أن ما تحت العذار لا يجب غسله مع أنه أقرب إلى الوجه ، فلأن لا يجب غسل البياض أولى ، ولهما أن البياض داخل في حد الوجه ، ولم يستر بالشعر فبقي واجب الغسل كما كان ، بخلاف العذار .

وإدخال الماء في داخل العينين ليس بواجب ; لأن داخل العين ليس بوجه ; لأنه لا يواجه إليه ; ولأن فيه حرجا ، وقيل : إن من تكلف لذلك من الصحابة كف بصره ، كابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية