بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
مطلب مسح الرأس ( والثالث ) : مسح الرأس مرة واحدة لقوله تعالى { ، وامسحوا برءوسكم } والأمر المطلق بالفعل لا يوجب التكرار ، ، واختلف في المقدار المفروض مسحه ، ذكره في الأصل ، وقدره بثلاث أصابع اليد ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قدره بالربع ، وهو قول زفر وذكر الكرخي والطحاوي عن أصحابنا مقدار الناصية .

وقال مالك : لا يجوز حتى يمسح جميع الرأس ، أو أكثره ، وقال الشافعي : إذا مسح ما يسمى مسحا يجوز ، وإن كان ثلاث شعرات .

وجه قول مالك أن الله تعالى ذكر الرأس ، والرأس اسم للجملة ، فيقتضي وجوب مسح جميع الرأس ، وحرف الباء لا يقتضي التبعيض لغة ، بل هو حرف إلصاق ، فيقتضي إلصاق الفعل بالمفعول ، وهو المسح بالرأس ، والرأس اسم لكله ، فيجب مسح كله ، إلا أنه إذا مسح الأكثر جاز لقيام الأكثر مقام الكل .

وجه قول الشافعي أن الأمر تعلق بالمسح بالرأس ، والمسح بالشيء لا يقتضي استيعابه في العرف ، يقال : ( مسحت يدي بالمنديل ) ، وإن لم يمسح بكله ، ويقال : " كتبت بالقلم ، وضربت بالسيف " ، وإن لم يكتب بكل القلم ، ولم يضرب بكل السيف ، فيتناول أدنى ما ينطلق عليه الاسم .

( ولنا ) أن الأمر بالمسح يقتضي آلة ، إذ المسح لا يكون إلا بآلة ، وآلة المسح هي أصابع اليد عادة ، وثلاث أصابع اليد أكثر الأصابع ، وللأكثر حكم الكل ، فصار كأنه نص على الثلاث وقال : " وامسحوا برءوسكم بثلاث أصابع أيديكم " .

وأما وجه التقدير بالناصية فلأن مسح جميع الرأس ليس بمراد من الآية بالإجماع ، ألا ترى أنه عند مالك أن مسح جميع الرأس إلا قليلا منه جائز ، فلا يمكن حمل الآية على جميع الرأس ، ولا على بعض مطلق ، وهو أدنى ما ينطلق عليه الاسم كما قاله الشافعي ، لأن ماسح [ ص: 5 ] شعرة ، أو ثلاث شعرات لا يسمى ماسحا في العرف ، فلا بد من الحمل على مقدار يسمى المسح عليه مسحا في المتعارف ، وذلك غير معلوم .

وقد روى المغيرة بن شعبة عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال ، وتوضأ ، ومسح على ناصيته ، } فصار فعله عليه الصلاة والسلام بيانا لمجمل الكتاب ، إذ البيان يكون بالقول تارة ، وبالفعل أخرى ، كفعله في هيئة الصلاة ، وعدد ركعاتها ، وفعله في مناسك الحج ، وغير ذلك .

فكان المراد من المسح بالرأس مقدار الناصية ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ووجه التقدير بالربع أنه قد ظهر اعتبار الربع في كثير من الأحكام ، كما في حلق ربع الرأس أنه يحل به المحرم ، ولا يحل بدونه ، ويجب الدم إذا فعله في إحرامه ، ولا يجب بدونه ، وكما في انكشاف الربع من العورة في باب الصلاة أنه يمنع جواز الصلاة ، وما دونه لا يمنع ، كذا ههنا ، ولو وضع ثلاث أصابع وضعا ، ولم يمدها جاز على قياس رواية الأصل ، وهي التقدير بثلاث أصابع ; لأنه أتى بالقدر المفروض ، وعلى قياس رواية الناصية : والربع لا يجوز لأنه ما استوفى ذلك القدر .

ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة لم يجز ; لأنه لم يأت بالقدر المفروض ، ولو مدها حتى بلغ القدر المفروض لم يجز عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يجوز ، وعلى هذا الخلاف إذا مسح بأصبع ، أو بأصبعين ، ومدهما حتى بلغ مقدار الفرض .

وجه قول زفر إن الماء لا يصير مستعملا حالة المسح كما لا يصير مستعملا حالة الغسل ، فإذا مد فقد مسح بماء غير مستعمل ، فجاز ، والدليل عليه أن سنة الاستيعاب تحصل بالمد ، ولو كان مستعملا بالمد لما حصلت ، لأنها لا تحصل بالماء المستعمل .

( ولنا ) أن الأصل أن يصير الماء مستعملا بأول ملاقاته العضو ، لوجود زوال الحدث ، أو قصد القربة ، إلا أن في باب الغسل لم يظهر حكم الاستعمال في تلك الحالة للضرورة ، وهي أنه لو أعطى له حكم الاستعمال لاحتاج إلى أن يأخذ لكل جزء من العضو ماء جديدا ، وفيه من الحرج ما لا يخفى ، فلم يظهر حكم الاستعمال لهذه الضرورة ، ولا ضرورة في المسح ; لأنه يمكنه أن يمسح دفعة واحدة ، فلا ضرورة إلى المد لإقامة الفرض ، فظهر حكم الاستعمال فيه ، وبه حاجة إلى إقامة سنة الاستيعاب ، فلم يظهر حكم الاستعمال فيه كما في الغسل .

ولو مسح بأصبع واحدة ثلاث مرات ، وأعادها إلى الماء في كل مرة جاز ، هكذا روى ابن رستم عن محمد في النوادر ; لأن المفروض هو المسح قدر ثلاث أصابع .

وقد وجد ، وإن لم يكن بثلاث أصابع ، ألا ترى أنه لو أصاب رأسه هذا القدر من ماء المطر سقط عنه فرض المسح ، وإن لم يوجد منه فعل المسح رأسا ، ولو مسح بأصبع واحدة ببطنها ، وبظهرها ، وبجانبها لم يذكر في ظاهر الرواية ، واختلف المشايخ فقال بعضهم : لا يجوز .

وقال بعضهم : يجوز ، وهو الصحيح ; لأن ذلك في معنى المسح بثلاث أصابع ، وإيصال الماء إلى أصول الشعر ليس بفرض ; لأن فيه حرجا فأقيم المسح على الشعر مقام المسح على أصوله ، ولو مسح على شعره وكان شعره طويلا فإن مسح على ما تحت أذنه لم يجز ، وإن مسح على ما فوقها جاز ، لأن المسح على الشعر كالمسح على ما تحته ، وما تحت الأذن عنق ، وما فوقه رأس .

ولا يجوز المسح على العمامة ، والقلنسوة ، لأنهما يمنعان إصابة الماء الشعر ، ولا يجوز مسح المرأة على خمارها ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أدخلت يدها تحت الخمار ، ومسحت برأسها وقالت : بهذا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان الخمار رقيقا ينفذ الماء إلى شعرها ، فيجوز لوجود الإصابة .

ولو أصاب رأسه المطر مقدار المفروض أجزأه مسحه بيده أو لم يمسحه ; لأن الفعل ليس بمقصود في المسح ، وإنما المقصود هو وصول الماء إلى ظاهر الشعر ، وقد وجد ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية