بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما ينقض الوضوء فالذي ينقضه الحدث .

والكلام في الحدث في الأصل في موضعين : أحدهما : في بيان ماهيته ، والثاني : في بيان حكمه ، أما الأول فالحدث هو نوعان : حقيقي ، وحكمي أما الحقيقي فقد اختلف فيه ، قال أصحابنا الثلاثة : هو خروج النجس من الآدمي الحي ، سواء كان من السبيلين الدبر والذكر أو فرج المرأة ، أو من غير السبيلين الجرح ، والقرح ، والأنف من الدم ، والقيح ، والرعاف ، والقيء وسواء كان الخارج من السبيلين معتادا كالبول ، والغائط ، والمني ، والمذي ، والودي ، ودم الحيض ، والنفاس ، أو غير معتاد كدم الاستحاضة ، .

وقال زفر : ظهور النجس من الآدمي الحي وقال مالك في قول : هو خروج النجس المعتاد من السبيل المعتاد ، فلم يجعل دم الاستحاضة حدثا لكونه غير معتاد .

وقال الشافعي : هو خروج شيء من السبيلين فليس بحدث ، وهو أحد قولي مالك .

وأما قول مالك فمخالف للسنة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم { المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة } وقوله { للمستحاضة توضئي ، وصلي ، وإن قطر الدم على الحصير قطرا } وقوله توضئي فإنه دم عرق انفجر ، ولأن المعنى الذي يقتضي كون الخروج من السبيلين حدثا لا يوجب الفصل بين المعتاد ، وغير المعتاد لما يذكر ، فالفصل يكون تحكما على الدليل .

وأما الكلام مع الشافعي فهو احتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه { قاء فغسل فمه ، فقيل له : ألا تتوضأ وضوءك للصلاة ؟ فقال : هكذا الوضوء من القيء } .

وعن عمر رضي الله عنه أنه حين طعن كان يصلي ، والدم يسيل منه ، ولأن خروج النجس من البدن زوال النجس عن البدن ، وزوال النجس عن البدن كيف يوجب تنجيس البدن مع أنه لا نجس على أعضاء الوضوء حقيقة ، وهذا هو القياس في السبيلين إلا أن الحكم هناك عرف بالنص غير معقول فيقتصر على مورد النص .

( ولنا ) ما روي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرفت له غرفة ، فأكلها ، فجاء المؤذن فقلت : الوضوء يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم إنما علينا الوضوء مما يخرج ليس مما يدخل وعلق الحكم بكل ما يخرج أو بمطلق الخارج من غير اعتبار المخرج ، إلا أن خروج الطاهر ليس بمراد ، فبقي خروج النجس مرادا .

وروي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { من قاء ، أو رعف في صلاته فلينصرف ، وليتوضأ ، وليبن على صلاته ما لم يتكلم } ، والحديث حجة على الشافعي في فصلين في وجوب الوضوء بخروج النجس من غير السبيلين ، وفي جواز البناء عند سبق الحدث في الصلاة .

وروي أنه قال لفاطمة بنت حبيش { توضئي فإنه دم عرق انفجر } أمرها بالوضوء ، وعلل بانفجار دم العرق ، لا بالمرور على المخرج ، وعن تميم الداري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : الوضوء من كل دم سائل } ، والأخبار في هذا الباب وردت مورد الاستفاضة ، حتى روي عن عشرة من الصحابة أنهم قالوا مثل مذهبنا ، وهم عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر وثوبان ، وأبو الدرداء ، وقيل في التاسع ، والعاشر : إنهما زيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وهؤلاء فقهاء الصحابة متبع لهم في فتواهم ، فيجب تقليدهم ، وقيل : إنه مذهب العشرة المبشرين بالجنة ، ولأن الخروج من السبيلين إنما كان حدثا ; لأنه يوجب تنجيس ظاهر البدن لضرورة تنجس موضع الإصابة ، فتزول الطهارة ضرورة ، إذ النجاسة ، والطهارة ضدان ، فلا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد ، ومتى زالت الطهارة عن ظاهر البدن خرج من أن يكون أهلا للصلاة التي هي مناجاة مع الله تعالى ، فيجب تطهيره بالماء ليصير أهلا لها ، وما رواه الشافعي محتمل يحتمل أنه قاء أقل من ملء الفم .

وكذا اسم الوضوء يحتمل غسل الفم ، فلا يكون حجة مع الاحتمال ، أو محمله على ما قلنا توفيقا بين الدلائل .

وأما حديث عمر فليس فيه أنه كان يصلي بعد الطعن من غير تجديد الوضوء ، بل يحتمل أنه توضأ بعد الطعن مع سيلان الدم ، وصلى .

وبه نقول ، كما في المستحاضة وقوله : " إن خروج النجس عن البدن زوال النجس عن البدن " فكيف يوجب تنجسه ؟ مسلم أنه يزول به شيء من نجاسة الباطن ، لكن يتنجس به الظاهر ; لأن القدر الذي زال إليه أوجب زوال الطهارة عنه ، والبدن في حكم الطهارة ، والنجاسة لا يتجزأ ، والعزيمة هي غسل كل البدن ، إلا أنه أقيم غسل أعضاء الوضوء مقام غسل كل [ ص: 25 ] البدن رخصة ، وتيسيرا ، ودفعا للحرج ، وبه تبين أن الحكم في الأصل معقول فيتعدى إلى الفرع .

وقوله لا نجاسة على أعضاء الوضوء حقيقة ممنوع بل عليها نجاسة حقيقية معنوية ، وإن كان الحس لا يدركها ، وهي نجاسة الحدث على ما عرف في الخلافيات .

التالي السابق


الخدمات العلمية