بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) أصحاب الأعذار كالمستحاضة ، وصاحب الجرح السائل ، والمبطون ومن به سلس البول ، ومن به رعاف دائم أو ريح ، ونحو ذلك ممن لا يمضي عليه وقت [ ص: 28 ] صلاة إلا ، ويوجد ما ابتلي به من الحدث فيه فخروج النجس من هؤلاء لا يكون حدثا في الحال ما دام وقت الصلاة قائما ، حتى أن المستحاضة لو توضأت في أول الوقت فلها أن تصلي ما شاءت من الفرائض ، والنوافل ما لم يخرج الوقت ، وإن دام السيلان ، وهذا عندنا وقال الشافعي إن كان العذر من أحد السبيلين كالاستحاضة ، وسلس البول ، وخروج الريح يتوضأ لكل فرض ، ويصلي ما شاء من النوافل .

وقال مالك في أحد قوليه يتوضأ لكل صلاة ، واحتجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { المستحاضة تتوضأ لكل صلاة } فمالك عمل بمطلق اسم الصلاة ، والشافعي قيده بالفرض لأنه الصلاة المعهودة ، ولأن طهارة المستحاضة طهارة ضرورية ; لأنه قارنها ما ينافيها ، أو طرأ عليها ، والشيء لا يوجد ، ولا يبقى مع المنافي إلا أنه لم يظهر حكم المنافي لضرورة الحاجة إلى الأداء ، والضرورة إلى أداء فرض الوقت فإذا فرغ من الأداء ارتفعت الضرورة فظهر حكم المنافي ، والنوافل اتباع الفرائض لأنها شرعت لتكميل الفرائض جبرا للنقصان المتمكن فيها فكانت ملحقة بأجزائها ، والطهارة الواقعة لصلاة ، واقعة لها بجميع أجزائها بخلاف فرض آخر ، لأنه ليس بتبع بل هو أصل بنفسه .

( ولنا ) ما روى أبو حنيفة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة } ، وهذا نص في الباب ، ولأن العزيمة شغل جميع الوقت بالأداء شكرا للنعمة بالقدر الممكن وإحرازا للثواب على الكمال إلا أنه جوز ترك شغل بعض الوقت بالأداء رخصة ، وتيسيرا فضلا من الله ورحمة تمكينا من استدراك الفائت بالقضاء ، والقيام بمصالح القوام ، وجعل ذلك شغلا لجميع الوقت حكما فصار وقت الأداء شرعا بمنزلة وقت الأداء فعلا ثم قيام الأداء مبق للطهارة فكذلك الوقت القائم مقامه ، وما رواه الشافعي فهو حجة عليه ; لأن مطلق الصلاة ينصرف إلى الصلاة المعهودة ، والمطلق ينصرف إلى المعهود المتعارف كما في قوله صلى الله عليه وسلم { الصلاة عماد الدين }

وما روي أنه صلى الله عليه وسلم { صلى صلوات بوضوء واحد } ، ونحو ذلك ، والصلاة المعهودة هي الصلوات الخمس في اليوم ، والليلة ، فكأنه قال : المستحاضة تتوضأ في اليوم ، والليلة خمس مرات فلو أوجبنا عليها الوضوء لكل صلاة ، أو لكل فرض تقضي لزاد على الخمس بكثير ، وهذا خلاف النص ، ولأن الصلاة تذكر على إرادة وقتها قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التيمم { أينما أدركتني الصلاة تيممت ، وصليت } .

والمدرك هو الوقت دون الصلاة التي هي فعله وقال صلى الله عليه وسلم إن للصلاة أولا وآخرا ، أي : لوقت الصلاة ، ويقال آتيك لصلاة الظهر ، أي لوقتها فجاز أن تذكر الصلاة ، ويراد بها وقتها .

ولا يجوز أن يذكر الوقت ، ويراد به الصلاة فيحمل المحتمل على المحكم توفيقا بين الدليلين صيانة لهما عن التناقض ، وإنما تبقى طهارة صاحب العذر في الوقت إذا لم يحدث حدثا آخر أما إذا أحدث حدثا آخر ، فلا تبقى ، لأن الضرورة في الدم السائل لا في غيره فكان هو في غيره كالصحيح قبل الوضوء ، وكذلك إذا توضأ للحدث أو لا ، ثم سال الدم فعليه الوضوء ، لأن ذلك الوضوء لم يقع لعدم العذر فكان عدما في حقه .

وكذا إذا سال الدم من أحد منخريه فتوضأ ، ثم سال من المنخر الآخر فعليه الوضوء ، لأن هذا حدث جديد لم يكن موجودا وقت الطهارة فلم تقع الطهارة له فكان هو ، والبول ، والغائط سواء فأما إذا سال منهما جميعا فتوضأ ، ثم انقطع أحدهما فهو على وضوء ما بقي الوقت لأن طهارته حصلت لهما جميعا .

والطهارة متى وقعت لعذر لا يضرها السيلان ما بقي الوقت فبقي هو صاحب عذر بالمنخر الآخر ، وعلى هذا حكم صاحب القروح إذا كان البعض سائلا ثم سال الآخر ، أو كان الكل سائلا فانقطع السيلان عن البعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية