بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما زمان هذا الطواف ، وهو ، وقته فأوله حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر بلا خلاف بين أصحابنا حتى لا يجوز قبله ، وقال الشافعي أول ، وقته منتصف ليلة النحر ، وهذا غير سديد ; لأن ليلة النحر ، وقت ركن آخر ، وهو الوقوف بعرفة فلا يكون ، وقتا للطواف ; لأن الوقت الواحد لا يكون وقتا لركنين ، وليس لآخره زمان معين موقت به فرضا بل جميع الأيام ، والليالي ، وقته فرضا بلا خلاف بين أصحابنا لكنه موقت بأيام النحر وجوبا في قول أبي حنيفة حتى لو أخره عنها فعليه دم عنده ، وفي قول أبي يوسف ، ومحمد غير موقت أصلا ، ولو أخره عن أيام النحر لا شيء عليه ، وبه أخذ الشافعي ، واحتجوا بما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يرمي فقال ارم ، ولا حرج } ، وما سئل يومئذ عن أفعال الحج قدم شيء منها أو أخر إلا قال افعل ، ولا حرج .

فهذا ينفي توقيت آخره ، وينفي وجوب الدم بالتأخير ، ولأنه لو توقت آخره لسقط بمضي آخره كالوقوف بعرفة فلما لم يسقط دل أنه لم يتوقت ، ولأبي حنيفة أن التأخير بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر بدليل أن من جاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم يلزمه دم ، ولو لم يوجد منه إلا تأخير الشك ، وكذا تأخير الواجب في باب الصلاة بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر ، وهو سجدتا السهو فكان الفقه في ذلك أن أداء الواجب كما هو ، واجب فمراعاة محل الواجب ، واجب فكان التأخير تركا للمراعاة الواجبة ، وهي مراعاته في محله ، والترك تركا لواجبين أحدهما أداء الواجب في نفسه ، والثاني مراعاته في محله فإذا ترك هذا الواجب يجب جبره بالدم وإذا توقت هذا الطواف بأيام النحر وجوبا عنده فإذا أخره عنها فقد ترك الواجب فأوجب ذلك نقصانا فيجب جبره بالدم ، ولما لم يتوقت عندهما ففي أي وقت فعله فقد فعله في وقته فلا يتمكن فيه نقص فلا يلزمه شيء ، ولا حجة لهما في الحديث ; لأن فيه نفي الحرج ، وهو نفي الإثم ، وانتفاء الإثم لا ينفي وجوب الكفارة كما لو حلق رأسه لأذى فيه : أنه لا يأثم ، وعليه الدم كذا ههنا ، وقولهما إنه لا يسقط بمضي آخر الوقت مسلم ، لكن هذا لا يمنع كونه موقتا ، وواجبا في الوقت كالصلوات المكتوبات أنها لا تسقط بخروج أوقاتها ، وإن كانت موقتة حتى تقضى كذا هذا ، والأفضل هو الطواف في أول أيام النحر لقوله صلى الله عليه وسلم { أيام النحر ثلاثة أولها أفضلها } .

وقد روي { أنه صلى الله عليه وسلم طاف في أول أيام النحر } ، ومعلوم أنه كان يأتي بالعبادات في أفضل أوقاتها ، ولأن هذا الطواف يقع به تمام التحلل ، وهو التحلل من النساء فكان في تعجيله صيانة نفسه عن الوقوع في الجماع ، ولزوم البدنة فكان أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية