بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

، وأما ، وقت الرمي فأيام الرمي أربعة : يوم النحر ، وثلاثة أيام التشريق ، أما يوم النحر فأول ، وقت الرمي ، منه ما بعد طلوع الفجر ، الثاني من يوم النحر فلا يجوز قبل طلوعه ، وأول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس قبل الزوال ، وهذا عندنا ، وقال الشافعي إذا انتصف ليلة النحر دخل وقت الجمار كما قال في الوقوف بعرفة ، ومزدلفة فإذا طلعت الشمس ، وجب ، وقال سفيان الثوري لا يجوز قبل طلوع الشمس ، والصحيح قولنا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه قدم ضعفة أهله ليلة المزدلفة ، وقال صلى الله عليه وسلم لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين } نهى عن الرمي قبل الصبح .

وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلطح أفخاذ أغيلمة بني عبد المطلب ، وكان يقول لهم لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين } .

فإن قيل قد روي أنه قال لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ، وهذا حجة سفيان فالجواب أن ذلك محمول على بيان الوقت المستحب توفيقا بين الروايتين بقدر الإمكان ، وبه نقول إن المستحب ذلك .

وأما آخره فآخر النهار كذا قال أبو حنيفة إن وقت الرمي يوم النحر يمتد إلى غروب الشمس ، وقال أبو يوسف يمتد إلى وقت الزوال فإذا زالت الشمس يفوت الوقت ، ويكون فيما بعده قضاء ، وجه قول أبي يوسف أن أوقات العبادة لا تعرف إلا بالتوقيف ، والتوقيف ورد بالرمي في يوم النحر قبل الزوال فلا يكون ما بعده وقتا له أداء كما في سائر أيام النحر ; لأنه لما جعل وقته فيها بعد الزوال لم يكن قبل الزوال وقتا له ، ولأبي حنيفة الاعتبار بسائر الأيام ، وهو أن في سائر الأيام ما بعد الزوال إلى غروب الشمس وقت الرمي فكذا في هذا اليوم ; لأن هذا اليوم إنما يفارق سائر الأيام في ابتداء الرمي لا في انتهائه فكان مثل سائر الأيام في الانتهاء فكان آخره وقت الرمي كسائر الأيام ، فإن لم يرم حتى غربت الشمس فيرمي قبل طلوع الفجر من اليوم الثاني أجزأه ولا شيء عليه في قول أصحابنا ، وللشافعي فيه قولان ، في قول : إذا غربت الشمس فقد فات الوقت وعليه الفدية ، وفي قول : لا يفوت إلا في آخر أيام التشريق ، والصحيح قولنا لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أذن للرعاء أن يرموا بالليل } ، ولا يقال إنه رخص لهم ذلك لعذر ; لأنا نقول ما كان لهم عذر ; لأنه كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي بالنهار فيرمي فثبت أن الإباحة كانت لعذر فيدل على الجواز مطلقا فلا يجب الدم ، فإن أخر الرمي حتى طلع الفجر من اليوم الثاني رمى ، وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف ، ومحمد لا شيء عليه ، والكلام فيه يرجع إلى أن الرمي مؤقت عنده ، وعندهما ليس بمؤقت ، وهو قول الشافعي ، وهو على الاختلاف الذي ذكرنا في طواف الزيارة في أيام النحر أنه مؤقت بها وجوبا عنده حتى يجب الدم بالتأخير عنها ، وعندهم ليس بمؤقت أصلا فلا يجب بالتأخير شيء ، والحجج من الجانبين ، وجواب أبي حنيفة عن تعلقهما بالخبر ، والمعنى ما ذكرنا في الطواف ، والله أعلم .

( فصل ) :

وأما وقت الرمي من اليوم الأول والثاني من أيام التشريق ، وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي فبعد الزوال حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة .

وروي عن أبي حنيفة أن الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال ، فإن رمى قبله جاز ، وجه هذه الرواية أن قبل الزوال وقت [ ص: 138 ] الرمي في يوم النحر فكذا في اليوم الثاني والثالث ; لأن الكل أيام النحر ، وجه الرواية المشهورة ما روي عن جابر رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى ، ورمى في بقية الأيام بعد الزوال } ، وهذا باب لا يعرف بالقياس بل بالتوقيف ، فإن أخر الرمي فيهما إلى الليل فرمى قبل طلوع الفجر جاز ، ولا شيء عليه ; لأن الليل وقت الرمي في أيام الرمي لما روينا من الحديث فإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال فأراد أن ينفر من منى إلى مكة ، وهو المراد من النفر الأول فله ذلك لقوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أي من نفر إلى مكة بعدما رمى يومين من أيام التشريق ، وترك الرمي في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تعجيله ، والأفضل أن لا يتعجل بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق ، وهو اليوم الثالث منها فيستوفي الرمي في الأيام كلها ثم ينفر ، وهو المعني من النفر الثاني ، وذلك معنى قوله تعالى { ، ومن تأخر فلا إثم عليه } ، وفي ظاهر هذه الآية الشريفة إشكال من وجهين : أحدهما أنه ذكر قوله تعالى { فلا إثم عليه } في المتعجل ، والمتأخر جميعا ، وهذا إن كان يستقيم في حق المتعجل ; لأنه يترخص لا يستقيم في حق المتأخر ; لأنه أخذ بالعزيمة والأفضل ، والثاني أنه قال تعالى في المتأخر { فلا إثم عليه لمن اتقى } قيده بالتقوى ، وهذا التقييد بالمتعجل أليق ; لأنه أخذ بالرخصة ، ولم يذكر فيه هذا التقييد ، والجواب عن الإشكال الأول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية فمن تعجل في يومين غفر له ، ومن تأخر غفر له

وكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى { فلا إثم عليه } رجع مغفورا له ، وأما قوله تعالى { لمن اتقى } فهو بيان أن ما سبق من وعد المغفرة للمتعجل والمتأخر بشرط التقوى ، ثم من أهل التأويل من صرف التقوى إلى الاتقاء عن قتل الصيد في الإحرام أي لمن اتقى قتل الصيد في حال الإحرام ، وصرف أيضا قوله تعالى { واتقوا الله } أي فاتقوا الله ولا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام ، ومنهم من صرف التقوى إلى الاتقاء عن المعاصي كلها في الحج ، وفيما بقي من عمره ، ويحتمل أن يكون المراد منه التقوى عما حظر عليه الإحرام من الرفث ، والفسوق ، والجدال ، وغيرها ، والله أعلم .

وإنما يجوز له النفر في اليوم الثاني والثالث ما لم يطلع الفجر من اليوم الثاني فإذا طلع الفجر لم يجز له النفر .

وأما وقت الرمي من اليوم الثالث من أيام التشريق ، وهو اليوم الرابع من أيام الرمي فالوقت المستحب له بعد الزوال ، ولو رمى قبل الزوال يجوز في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف ، ومحمد لا يجوز ، واحتجا بما روي عن جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى ، ورمى في بقية الأيام بعد الزوال } ، وأوقات المناسك لا تعرف قياسا فدل أن وقته بعد الزوال ، ولأن هذا يوم من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه بعد الزوال كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق ، ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إذا افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي ، والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو باب لا يدرك بالرأي ، والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا الحديث أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب ، ولأن له أن ينفر قبل الرمي ، ويترك الرمي في هذا اليوم رأسا فإذا جاز له ترك الرمي أصلا فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية