بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ويأخذ حصى الجمار من مزدلفة أو من الطريق لما روي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس رضي الله عنهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة } ، وعليه فعل المسلمين ، وهو أحد نوعي الإجماع .

وإن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه .

وقد أساء ، وقال مالك : لا تجزئه ; لأنها حصى مستعملة ، ولنا قوله : صلى الله عليه وسلم { ارم ، ولا حرج } مطلقا ، وتعليل مالك لا يستقيم على أصله ; لأن الماء المستعمل عنده طاهر وطهور حتى يجوز الوضوء به ، فالحجارة المستعملة أولى ، وإنما كره ذلك عندنا لما روي أنه سئل ابن عباس فقيل له : إن من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا في الجاهلية والإسلام يرمي الناس ، وليس ههنا إلا هذا القدر فقال : كل حصاة تقبل فإنها ترفع ، وما لا يقبل فإنه يبقى .

ومثل هذا لا يعرف إلا سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكره أن يرمي بحصاة لم تقبل فيأتي منى فيرمي جمرة العقبة سبع حصيات ، لما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة سبع حصيات } يقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة ، لما روى أسامة بن زيد ، والفضل بن عباس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة } ، وكان أسامة رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة ، والفضل كان رديفه من مزدلفة إلى منى .

وروي أن ابن عباس سئل عن ذلك فقال : أخبرني أخي الفضل { أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة } ، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسواء كان في الحج الصحيح أو في الحج الفاسد أنه يقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة ; لأن أعمالها لا تختلف ، فلا يختلف وقت قطع التلبية ، وسواء كان مفردا بالحج أو قارنا أو متمتعا ; لأن القارن والمتمتع كل واحد منهما محرم بالحج ، فكان كالمفرد به ، ولا يقطع القارن التلبية إذا أخذ في طواف العمرة ; لأنه محرم بإحرام الحج ، وإنما يقطع عند ما يقطع المفرد بالحجة ; لأنه بعد إتيانه بالعمرة كالمفرد بالحج ، فأما المحرم بالعمرة المفردة فإنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر ، وأخذ في طواف العمرة ، والفرق بين المحرم بالحج ، وبين المحرم بالعمرة المفردة ذكرناه فيما تقدم ، وقال مالك في المفرد بالعمرة : يقطع التلبية إذا رأى البيت ، وهذا غير سديد ; لأن قطع التلبية يتعلق بفعل هو نسك كالرمي في حق المحرم بالحج ، ورؤية البيت ليس بنسك ، فلا يقطع عندنا ، فأما استلام الحجر فنسك كالرمي فيقطع عنده لا عند الرؤية .

قال محمد : إن فائت الحج إذا تحلل بالعمرة يقطع التلبية حيث يأخذ في الطواف كذا هذا ، والقارن إذا فاته الحج يقطع التلبية في الطواف ، والثاني الذي يتحلل به من حجته ; لأن العمرة [ ص: 157 ] ما فاتته ، إذ ليس لها وقت معين فيأتي بها فيطوف ، ويسعى كما كان يفعل لو لم يفته الحج ، وإنما فاته الحج فيفعل ما يفعله فائت الحج ، وهو أن يتحلل بأفعال العمرة ، وهي الطواف والسعي كالمقيم فيقطع التلبية إذا أخذ في طواف الحج ، والمحصر يقطع التلبية إذا ذبح عنه هديه ; لأنه إذا ذبح هديه فقد تحلل ، ولا تلبية بعد التحلل ، فإن حلق الحاج قبل أن يرمي جمرة العقبة يقطع التلبية ; لأنه بالحلق تحلل من الإحرام لما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن حلق قبل الرمي { : ارم ، ولا حرج } فثبت أن التحلل من الإحرام يحصل بالحلق قبل الرمي ، ولا تلبية بعد التحلل ، فإن زار البيت قبل أن يرمي ، ويحلق ويذبح ، قطع التلبية في قول أبي حنيفة .

وروي عن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول الشمس من يوم النحر ، وعن محمد ثلاث روايات في رواية مثل قول أبي حنيفة

وروى هشام عنه ، وروى ابن سماعة عنه : أن من لم يرم قطع التلبية إذا غربت الشمس من يوم النحر ، وروى هشام عنه رواية أخرى أنه يقطع التلبية إذا مضت أيام النحر ، فظاهر روايته مع أبي حنيفة وجه قول أبي يوسف : أنه ، وإن طاف فإحرامه قائم لم يتحلل بهذا الطواف إذا لم يحلق ، بدليل أنه لا يباح له الطيب واللبس ، فالتحق الطواف بالعدم ، وصار كأنه لم يطف فلا يقطع التلبية إلا إذا زالت الشمس ; لأن من أصله أن هذا الرمي مؤقت بالزوال ، فإذا زالت الشمس يفوت وقته ، ويفعل بعده قضاء ، فصار فواته عن وقته بمنزلة فعله في وقته ، وعند فعله في وقته يقطع التلبية .

كذا عند فواته عن وقته ، بخلاف ما إذا حلق قبل الرمي ; لأنه تحلل بالحلق ، وخرج عن إحرامه حتى يباح له الطيب واللبس لذلك افترقا ، ولهما أن الطواف ، وإن كان قبل الرمي والحلق والذبح ، فقد وقع التحلل به في حق النساء ، بدليل أنه لو جامع بعده لا يلزمه بدنة ، فكان التحلل بالطواف كالتحلل بالحلق ، فيقطع التلبية به كما يقطع بالحلق .

وقد خرج الجواب عن قوله : إن إحرامه قائم بعد الطواف ; لأنا نقول : نعم لكن في حق الطيب واللبس ، لا في حق النساء فلم يكن قائما مطلقا ، والتلبية لم تشرع إلا في الإحرام المطلق ، ولو ذبح قبل الرمي يقطع التلبية في قول أبي حنيفة إذا كان قارنا أو متمتعا ، وهو إحدى الروايتين عن محمد ، وإن كان مفردا بالحج لا يقطع ; لأن الذبح من القارن والمتمتع محلل كالحلق ، ولا تلبية بعد التحلل ، فأما المفرد فتحلله لا يقف على ذبحه .

ألا ترى أنه ليس بواجب عليه ، فلا يقطع عنده التلبية ، وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يقطع التلبية ، والتحلل لا يقع بالذبح على هذه الرواية عنده ، وإنما يقع بالرمي أو بالحلق ،ويرمي سبع حصيات مثل حصى الخزف ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه قال لعبد الله بن عباس : رضي الله عنه ائتني بسبع حصيات مثل حصى الخزف فأتاه بهن فجعل يقلبهن بيده ، ويقول : مثلهن بمثلهن لا تغلوا فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين } .

وقد قالوا : لا يزيد على ذلك لما روي عن معاذ : رضي الله عنه أنه قال { خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ، وعلمنا المناسك ، وقال : ارموا سبع حصيات مثل حصى الخزف ، ووضع إحدى سبابتيه على الأخرى كأنه يخذف } ، ولأنه لو كان أكبر من ذلك ، فلا يؤمن أن يصيب غيره لازدحام الناس فيتأذى به ، ويرمي من بطن الوادي ، ويكبر مع كل حصاة يرميها ، لما روي عن عبد الله بن مسعود : رضي الله عنه أنه رمى جمرة العقبة سبع حصيات من بطن الوادي يكبر مع كل حصاة يرميها فقيل له : إن ناسا يرمون من فوقها فقال عبد الله : رضي الله عنه هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة .

وكذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما { أنه كان يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات يتبع كل حصاة بتكبيرة ، ويقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك } ، وعن ابنه سالم بن عبد الله أنه استبطن الوادي فرمى الجمرة سبع حصيات يكبر مع كل حصاة الله أكبر الله أكبر ، اللهم اجعله حجا مبرورا ، وذنبا مغفورا ، وعملا مشكورا ، وقال : حدثني أبي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي جمرة العقبة من هذا المكان ، ويقول كلما رمى بحصاة مثل ما قلت } ، وإن رمى من فوق العقبة أجزأه ، لكن السنة ما ذكرنا .

وكذا لو جعل بدل التكبير تسبيحا أو تهليلا جاز ، ولا يكون مسيئا .

وقد قالوا إذا رمى للعقبة يجعل الكعبة عن يساره ، ومنى عن يمينه ، ويقوم فيها حيث يرى موقع حصاه ، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل الكعبة عن يساره ، ومنى عن يمينه ، وبأي شيء رمى أجزأه حجرا كان أو طينا أو غيرهما مما هو من جنس الأرض ، وهذا عندنا [ ص: 158 ]

وقال الشافعي : لا يجوز إلا بالحجر ، وجه قوله أن هذا أمر يعرف بالتوقيف ، والتوقيف ورد بالحصى ، والحصى هي الأحجار الصغار ، ولنا ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ارم ، ولا حرج } .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق } .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من رمى وذبح وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء } مطلقا عن صفة الرمي ، والرمي بالحصى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم محمول على الأفضلية لا الجواز توفيقا بين الدلائل ، لما صح من مذهب أصحابنا أن المطلق لا يحمل على المقيد بل يجري المطلق على إطلاقه ، والمقيد على تقييده ما أمكن ، وههنا أمكن بأن يحمل المطلق على أصل الجواز ، والمقيد على الأفضلية ، ولا يقف عند هذه الجمرة للدعاء بل ينصرف إلى رحله ، والأصل أن كل رمي ليس بعده رمي في ذلك اليوم لا يقف عنده ، وكل رمي بعده رمي في ذلك اليوم يقف عنده ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند جمرة العقبة ، ووقف عند الجمرتين ثم الرمي ماشيا أفضل أو راكبا ، فقد روي عن أبي يوسف أنه فصل في ذلك تفصيلا ، فإنه حكى أن إبراهيم بن الجراح دخل على أبي يوسف ، وهو مريض في المرض الذي مات فيه فسأله أبو يوسف فقال : أيهما أفضل الرمي ماشيا أو راكبا ؟ فقال : ماشيا فقال : أخطأت ثم قال : راكبا فقال : أخطأت ، وقال : كل رمي بعده رمي فالماشي أفضل ، وكل رمي لا رمي بعده فالراكب أفضل قال : فخرجت من عنده فسمعت الناعي بموته قبل أن أبلغ الباب ، ذكرنا هذه الحكاية ليعلم أنه بلغ حرصه في التعليم حتى لم يسكت عنه في رمقه فيقتدى به في التحريض على التعليم ، وهذا لما ذكرنا أن كل رمي بعده رمي فالسنة فيه هو الوقوف للدعاء ، والماشي أمكن للوقوف والدعاء .

وكل رمي لا رمي بعده فالسنة فيه هو الانصراف لا الوقوف ، والراكب أمكن من الانصراف ، فإن قيل أليس أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه رمى راكبا ، وقال : صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا } فالجواب : أن ذلك محمول على رمي لا رمي بعده أو على التعليم ليراه الناس فيتعلموا منه مناسك الحج ، فإن رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جميعا دفعة واحدة فهي عن واحدة ، ويرمي ستة أخرى ; لأن التوقيف ورد بتفريق الرميات فوجب اعتباره ، وهذا بخلاف الاستنجاء أنه إذا استنجى بحجر واحد وأنقاه كفاه ، ولا يراعى فيه العدد عندنا ; لأن وجوب الاستنجاء ثبت معقولا بمعنى التطهير فإذا حصلت الطهارة بواحد اكتفى به ، فأما الرمي فإنما وجب تعبدا محضا فيراعى فيه مورد التعبد ، وأنه ورد بالتفريق فيقتصر عليه ، فإن رمى أكثر من سبع حصيات لم تضره الزيادة ; لأنه أتى بالواجب وزيادة ، والسنة أن يرمي بعد طلوع الشمس من يوم النحر قبل الزوال لما روى جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر ضحى ، ورمى بعد ذلك بعد الزوال } ، ولو رمى قبل طلوع الشمس بعد انفجار الصبح أجزأه خلافا لسفيان .

والمسألة ذكرناها فيما تقدم ، ولا يرمي يومئذ غيرها لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر إلا جمرة العقبة ، } فإذا فرغ من هذا الرمي لا يقف ، وينصرف إلى رحله ، فإن كان منفردا بالحج يحلق أو يقصر ، والحلق أفضل لما ذكرنا فيما تقدم ، ولا ذبح عليه ، وإن كان قارنا أو متمتعا يجب عليه أن يذبح ويحلق ويقدم الذبح على الحلق لقوله تعالى : { ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم } رتب قضاء التفث ، وهو الحلق على الذبح .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق } .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم { أنه رمى ثم ذبح ثم دعا بالحلاق } ، فإن حلق قبل الذبح من غير إحصار فعليه لحلقه قبل الذبح دم في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد ، وجماعة من أهل العلم : أنه لا شيء عليه ، وأجمعوا على أن المحصر إذا حلق قبل الذبح أنه تجب عليه الفدية ، احتج من خالفه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه سئل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال : اذبح ، ولا حرج } ، ولو كان الترتيب واجبا لكان في تركه حرج ، ولأبي حنيفة الاستدلال بالمحصر إذا حلق قبل الذبح لأذى في رأسه أنه تلزمه الفدية بالنص ، فالذي يحلق رأسه بغير أذى به أولى ، ولهذا قال أبو حنيفة بزيادة التغليظ في حق من حلق رأسه قبل الذبح بغير أذى حيث قال : لا يجزئه غير الدم ، وصاحب الأذى مخير بين الدم والطعام والصيام كما خيره [ ص: 159 ] الله تعالى ، وهذا هو المعقول ; لأن الضرورة سبب لتخفيف الحكم وتيسيره ، فالمعقول أن يجب في حال الاختيار بذلك السبب زيادة غلظ لم يكن في حال العذر ، فأما أن يسقط من الأصل في غير حالة العذر ويجب في حالة العذر فممتنع ، ولا حجة لهم في الحديث ; لأن قوله : لا حرج المراد منه الإثم لا الكفارة ، وليس من ضرورة انتفاء الإثم انتفاء الكفارة .

ألا ترى أن الكفارة تجب على من حلق رأسه لأذى به ، ولا إثم عليه .

وكذا يجب على الخاطئ فإذا حلق الحاج أو قصر حل له كل شيء حظر عليه الإحرام إلا النساء عند عامة العلماء لما ذكرنا فيما تقدم ، ثم يزور البيت من يومه ذلك أو من الغد أو بعد الغد ، ولا يؤخرها عنها ، وأفضلها أولها ، لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في أول أيام النحر } فيطوف أسبوعا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا طاف ، وعليه عمل المسلمين ، ولا يرمل في هذا الطواف ; لأنه لا سعي عقيبه ; لأنه قد طاف طواف اللقاء ، وسعى عقيبه حتى لو لم يكن طاف طواف اللقاء ، ولا سعي فإنه يرمل في طواف الزيارة ، ويسعى بين الصفا ، والمروة عقيب طواف الزيارة ، ولو أخره عن أيام النحر فعليه دم في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ، ومحمد لا شيء عليه ، والمسألة قد مضت ، فإذا طاف طواف الزيارة كله أو أكثره حل له النساء أيضا ; لأنه قد خرج من العبادة ، وما بقي عليه شيء من أركانها ، والأصل أن في الحج إحلالين : الإحلال الأول بالحلق أو بالتقصير ويحل به كل شيء إلا النساء ، والإحلال الثاني بطواف الزيارة ، ويحل به النساء أيضا ثم يرجع إلى منى ، ولا يبيت بمكة ، ولا في الطريق ، هو السنة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل ، ويكره أن يبيت في غير منى في أيام منى ، فإن فعل لا شيء عليه ، ويكون مسيئا ; لأن البيتوتة بها ليست بواجبة بل هي سنة ، وعند الشافعي يجب عليه الدم ; لأنها واجبة عنده ، واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله على الوجوب في الأصل ، ولنا ما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية } ، ولو كان ذلك واجبا لم يكن العباس يترك الواجب لأجل السقاية ، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص له في ذلك ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم محمول على السنة توفيقا بين الدليلين ، وإذا بات بمنى فإذا كان من الغد ، وهو اليوم الأول من أيام التشريق والثاني من أيام الرمي ، فإنه يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في ثلاث مواضع : أحدها المسمى بالجمرة الأولى ، وهي التي تلي مسجد الخيف ، وهو مسجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيرمي عندها سبع حصيات مثل حصى الخزف ، يكبر مع كل حصاة ، فإذا فرغ منها يقف عندها فيكبر ، ويهلل ، ويحمد الله تعالى ، ويثني عليه ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى حوائجه ، ثم يأتي الجمرة الوسطى فيفعل بها مثل ما فعل بالأولى ، ويرفع يديه عند الجمرتين بسطا ثم يأتي جمرة العقبة فيفعل مثل ما فعل بالجمرتين الأولتين ، إلا أنه لا يقف للدعاء بعد هذه الجمرة ، بل ينصرف إلى رحله لما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمار الثلاث في أيام التشريق ، وابتدأ بالتي تلي مسجد الخيف ، ووقف عند الجمرتين ، ولم يقف عند الثالثة } .

وأما رفع اليدين فلقول النبي : صلى الله عليه وسلم { لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن ، وذكر من جملتها ، وعند المقامين عند الجمرتين ، } فإذا كان اليوم الثاني من أيام التشريق ، وهو اليوم الثالث من أيام الرمي رمى الجمار الثلاث بعد الزوال ، ففعل مثل ما فعل أمس ، فإذا رمى فإن أراد أن ينفر من منى ، ويدخل مكة نفر قبل غروب الشمس ، ولا شيء عليه لقوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } ، وإن أقام ولم ينفر حتى غربت الشمس ، يكره له أن ينفر حتى تطلع الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق ، وهو اليوم الرابع من أيام الرمي ، ويرمي الجمار الثلاث ، ولو نفر قبل طلوع الفجر لا شيء عليه .

وقد أساء ، أما الجواز فلأنه نفر في وقت لم يجب فيه الرمي بعد ، بدليل أنه لو رمى فيه عن اليوم الرابع لم يجز ، فجاز فيه النفر كما لو رمى الجمار في الأيام كلها ثم نفر ، وأما الإساءة فلأنه ترك السنة فإذا طلع الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق رمى الجمار الثلاث ثم ينفر ، فإن نفر قبل الرمي فعليه دم ; لأنه ترك الواجب ، وإذا أراد أن ينفر في النفر الأول أو في النفر الثاني ، فإنه يحمل ثقله معه ، ويكره تقديمه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المرء من حيث رحله } .

وروي : { المرء من حيث أهله } ، ولأنه لو فعل ذلك يشتغل قلبه بذلك ، ولا يخلو من ضرر .

وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب على ذلك .

وحكي عن إبراهيم النخعي أن عمر رضي الله عنه [ ص: 160 ] إنما كان يضرب على تقديم الثقل مخافة السرقة ، ثم يأتي الأبطح ، ويسمى المحصب ، وهو موضع بين منى وبين مكة فينزل به ساعة ، فإنه سنة عندنا لما روي عن نافع عن عبد الله بن عمر : رضي الله عنهم { أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان نزلوا بالأبطح } .

التالي السابق


الخدمات العلمية