بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يحرم به ، فما يحرم به في الأصل ثلاثة أنواع : الحج وحده ، والعمرة وحدها ، والعمرة مع الحج ، وعلى حسب تنوع المحرم به يتنوع المحرمون ، وهم في الأصل أنواع ثلاثة : مفرد بالحج ، ومفرد بالعمرة ، وجامع بينهما ، فالمفرد بالحج هو الذي يحرم بالحج لا غير ، والمفرد بالعمرة هو الذي يحرم بالعمرة لا غير .

وأما الجامع بينهما فنوعان : قارن ، ومتمتع ، فلا بد من بيان معنى القارن والمتمتع في عرف الشرع ، وبيان ما يجب عليهما بسبب القران والتمتع ، وبيان الأفضل من أنواع ما يحرم به : أنه الإفراد أو القران أو التمتع .

أما القارن في عرف الشرع ، فهو اسم لآفاقي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل وجود ركن العمرة ، وهو الطواف كله أو أكثره ، فيأتي بالعمرة أولا ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير ، سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول ، حتى لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة أو أكثره كان قارنا لوجود معنى القران ، وهو الجمع بين الإحرامين وشرطه ، ولو كان إحرامه للحج بعد طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارنا ، بل يكون متمتعا لوجود معنى التمتع ، وهو أن يكون إحرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله وهو الطواف سبعة أشواط ، أو أكثره وهو أربعة أشواط على ما نذكر في تفسير المتمتع إن شاء الله تعالى .

وكذلك لو أحرم بالحجة أولا ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة يكون قارنا لإتيانه بمعنى القران ، إلا أنه يكره له ذلك ; لأنه مخالفة السنة ; إذ السنة تقديم إحرام العمرة على إحرام الحج .

ألا ترى أنه يقدم العمرة على الحجة في الفعل فكذا في القول ، ثم إذا فعل ذلك ينظر ، إن أحرم بالعمرة قبل أن يطوف لحجته عليه أن يطوف أولا لعمرته ويسعى لها ثم يطوف لحجته ويسعى لها مراعاة للترتيب في الفعل ، فإن لم يطف للعمرة ، ومضى إلى عرفات ، ووقف بها صار رافضا لعمرته ; لأن العمرة تحتمل الارتفاض لأجل الحجة في الجملة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها { أنها قدمت مكة معتمرة فحاضت ، فقال لها النبي : صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك ، وأهلي [ ص: 168 ] بالحج ، واصنعي في حجتك ما يصنع الحاج } ، وههنا وجد دليل الارتفاض ، وهو الوقوف بعرفة ; لأنه اشتغال بالركن الأصلي للحج فيتضمن ارتفاض العمرة ضرورة ، لفوات الترتيب في الفعل ، وهل يرتفض بنفس التوجه إلى عرفات ؟ ، ذكر في الجامع الصغير أنه لا يرتفض ، وذكر في كتاب المناسك فيه القياس والاستحسان ، فقال : القياس أن يرتفض ، وفي الاستحسان لا يرتفض ، عنى به القياس على أصل أبي حنيفة في باب الصلاة فيمن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ثم خرج إلى الجمعة أنه يرتفض ظهره عنده ، كذا ههنا ينبغي أن ترتفض عمرته بالقياس على ذلك إلا أنه استحسن وقال : لا يرتفض ما لم يقف بعرفات ، وفرق بين العمرة وبين الصلاة .

ووجه الفرق له أن السعي إلى الجمعة من ضرورات أداء الجمعة ، وأداء الجمعة ينافي بقاء الظهر فكذا ما هو من ضروراته إذ الثابت ضرورة شيء ملحق به ، وههنا التوجه إلى عرفات وإن كان من ضرورات الوقوف بها ، لكن الوقوف لا ينافي بقاء العمرة صحيحة ، فإن عمرة القارن والمتمتع تبقى صحيحة مع الوقوف بعرفة ، وإنما الحاجة ههنا إلى مراعاة الترتيب في الأفعال ، فما لم توجد أركان الحج قبل أركان العمرة لا يوجد فوات الترتيب ، وذلك هو الوقوف بعرفة ، فأما التوجه فليس بركن ، فلا يوجب فوات الترتيب في الأفعال ، وإن كان طاف للحج ثم أحرم بالعمرة فالمستحب له أن يرفض عمرته لمخالفته السنة في الفعل ، إذ السنة هي تقديم أفعال العمرة على أفعال الحج ، فإذا ترك التقديم فقد تحققت البدعة فيستحب له أن يرفض لكن لا يؤمر بذلك حتما ; لأن المؤدى من أفعال الحج ، وهو طواف اللقاء ليس بركن ، ولو مضى عليها أجزأه ; لأنه أتى بأصل النسك ، وإنما ترك السنة بترك الترتيب في الفعل ، وإنه يوجب الإساءة دون الفساد ، وعليه دم القران ; لأنه قارن لجمعه بين إحرام الحجة والعمرة ، والقران جائز مشروع ، ولو رفضها يقضيها ; لأنها لزمته بالشروع فيها ، وعليه دم لرفضها ; لأن رفض العمرة فسخ للإحرام بها ، وأنه أعظم من إدخال النقص في الإحرام ، وذا يوجب الدم فهذا أولى ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية