بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما شرط وجوبه فالقدرة عليه ; لأن الله تعالى أوجب ما استيسر من الهدي ، ولا وجوب إلا على القادر ، فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله لقوله عز وجل { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } .

معناه فمن لم يجد الهدي فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم ، ولا يجوز له أن يصوم ثلاثة أيام في أشهر الحج قبل أن يحرم بالعمرة بلا خلاف ، وهل يجوز له بعد ما أحرم بالعمرة في أشهر الحج قبل أن يحرم بالحج ، قال أصحابنا : يجوز سواء طاف لعمرته أو لم يطف بعد أن أحرم بالعمرة .

وقال الشافعي : لا يجوز حتى يحرم بالحج ، كذا ذكر الفقيه أبو الليث الخلاف .

وذكر إمام الهدى أبو منصور الماتريدي - رحمه الله - القياس : أن لا يجوز ما لم يشرع في الحج ، وهو قول زفر لقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } ، وإنما يكون في الحج بعد الشروع فيه ، وذلك بالإحرام ، ولأن على أصل الشافعي دم المتعة دم كفارة وجب جبرا للنقص ، وما لم يحرم بالحج لا يظهر النقص ، ولنا أن الإحرام بالعمرة سبب لوجود الإحرام بالحجة فكان الصوم تعجيلا بعد وجود السبب فجاز ، وقبل وجود العمرة لم يوجد السبب فلم يجز ، ولأن السنة في المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية .

كذا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك ، وإذا كانت السنة في حقه الإحرام بالحج عشية التروية فلا يمكنه صيام الثلاثة الأيام بعد ذلك ، وإنما بقي له يوم واحد ; لأن أيام النحر والتشريق قد نهي عن الصيام فيها ، فلا بد من الحكم بجواز الصوم بعد إحرام العمرة قبل الشروع في الحج .

وأما الآية فقد قيل في تأويلها : إن المراد منها وقت الحج ، وهو الصحيح ; إذ الحج لا يصلح ظرفا للصوم ، والوقت يصلح ظرفا له فصار تقدير الآية الشريفة : فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج ، كما في قوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } أي وقت الحج أشهر معلومات ، وعلى هذا صارت الآية الشريفة حجة لنا عليه ; لأن الله تعالى أوجب على المتمتع صيام ثلاثة أيام في وقت الحج ، وهو أشهر الحج ، وقد صام في أشهر الحج فجاز إلا أن زمان ما قبل الإحرام صار مخصوصا من النص ، والأفضل أن يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة بأن يصوم قبل التروية بيوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ; لأن الله تعالى جعل صيام ثلاثة أيام بدلا عن الهدي ، وأفضل أوقات البدل وقت اليأس عن الأصل لما يحتمل القدرة على الأصل قبله ، ولهذا كان الأفضل تأخير التيمم إلى آخر وقت الصلاة لاحتمال وجود الماء قبله ، وهذه الأيام آخر وقت هذا الصوم عندنا ، فإذا مضت ولم يصم فيها فقد فات الصوم وسقط عنه ، وعاد الهدي ، فإن لم يقدر عليه يتحلل ، وعليه دمان : دم التمتع ، ودم التحلل قبل الهدي .

وعند الشافعي لا يفوت بمضي هذه الأيام ، ثم له قولان : في قول يصومها في أيام التشريق ، وفي قول يصومها بعد أيام التشريق .

والصحيح قولنا لقوله تعالى { : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } أي في وقت الحج لما بينا عين وقت الحج لصوم هذه الأيام ، إلا أن يوم النحر خرج من أن [ ص: 174 ] يكون وقتا لهذا الصوم بالإجماع ، وما رواه ليس وقت الحج ، فلا يكون محلا لهذا الصوم ، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : المتمتع إنما يصوم قبل يوم النحر ، وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا أتاه يوم النحر ، وهو متمتع لم يصم ، فقال له عمر رضي الله عنه : اذبح شاة ، فقال الرجل ما أجدها ، فقال له عمر سل قومك ، فقال : ليس ههنا منهم أحد ، فقال عمر رضي الله عنه : يا مغيث أعطه عني ثمن شاة ، والظاهر أنه قال ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن مثل ذلك لا يعرف رأيا واجتهادا .

وأما صوم السبعة ، فلا يجوز قبل الفراغ من أفعال الحج بالإجماع ، وهل يجوز بعد الفراغ من أفعال الحجبمكة قبل الرجوع إلى الأهل ؟ قال أصحابنا : يجوز .

وقال الشافعي : لا يجوز إلا بعد الرجوع إلى الأهل إلا إذا نوى الإقامة بمكة فيصومها بمكة فيجوز ، واحتج بقوله تعالى { ، وسبعة إذا رجعتم } أي إذا رجعتم إلى أهليكم ، ولنا هذه الآية بعينها ; لأنه قال عز وجل : { إذا رجعتم } مطلقا ، فيقتضي أنه إذا رجع من منى إلى مكة ، وصامها يجوز ، وهكذا قال بعض أهل التأويل : إذا رجعتم من منى .

وقال بعضهم : إذا فرغتم من أفعال الحج ، وقيل : إذا أتى وقت الرجوع .

ولو وجد الهدي قبل أن يشرع في صوم ثلاثة أيام أو في خلال الصوم أو بعد ما صام فوجده في أيام النحر قبل أن يحلق أو يقصر : يلزمه الهدي ، ويسقط حكم الصوم عندنا .

وقال الشافعي لا يلزمه الهدي ، ولا يبطل حكم الصوم ، والصحيح قولنا ; لأن الصوم بدل عن الهدي ، وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فبطل حكم البدل كما لو وجد الماء في خلال التيمم .

ولو وجد الهدي في أيام الذبح أو بعد ما حلق أو قصر فحل قبل أن يصوم السبعة صح صومه ، ولا يجب عليه الهدي ; لأن المقصود من البدل ، وهو التحلل قد حصل ، فالقدرة على الأصل بعد ذلك لا تبطل حكم البدل كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء ، واختلف أبو بكر الرازي ، وأبو عبد الله الجرجاني في صوم السبعة قال الجرجاني : إنه ليس ببدل ; بدليل أنه يجوز مع وجود الهدي بالإجماع ، ولا جواز للبدل مع وجود الأصل كما في التراب مع الماء ونحو ذلك .

وقال الرازي : إنه بدل ; لأنه لا يجب إلا حال العجز عن الأصل ، وجوازه حال وجود الأصل لا يخرجه عن كونه بدلا .

ولو صام ثلاثة أيام ، ولم يحل حتى مضت أيام الذبح ثم وجد الهدي فصومه ماض ، ولا هدي عليه ، كذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ، ذكره الكرخي في مختصره ; لأن الذبح يتوقت بأيام الذبح عندنا ، فإذا مضت فقد حصل المقصود ، وهو إباحة التحلل فكأنه تحلل ثم وجد الهدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية