بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل فجملة الكلام فيه أن المحصر لا يخلو إما أن كان أحرم بالحجة لا غير ، وإما أن كان أحرم بالعمرة لا غير ، وإما أن كان أحرم بهما ، بأن كان قارنا ، فإن كان أحرم بالحجة لا غير ، فإن بقي وقت الحج عند زوال الإحصار ، وأراد أن يحج من عامه ذلك ، أحرم وحج ، وليس عليه نية القضاء ، ولا عمرة عليه كذا ذكره محمد في الأصل .

وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة : وعليه دم لرفض الإحرام الأول ، وإن تحولت السنة فعليه قضاء حجة وعمرة ، ولا تسقط عنه تلك الحجة إلا بنية القضاء .

وروى الحسن عن أبي حنيفة : أن عليه قضاء حجة وعمرة في الوجهين جميعا ، وعليه نية القضاء فيهما وهو قول زفر ذكره القاضي في شرحه مختصر الطحاوي وعلى هذا التفصيل والاختلاف ما إذا أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير إذن زوجها فمنعها زوجها فحللها ، ثم أذن لها بالإحرام فأحرمت في عامها ذلك ، أو تحولت السنة فأحرمت .

وجه قول زفر أن ما تحجه في هذا العام دخل في حد القضاء ; لأنه يؤدى بإحرام جديد ; لانفساخ الأول بالتحلل فيكون قضاء ، فلا يتأدى إلا بنية القضاء وعليه حجة وعمرة كما لو تحولت السنة .

ولنا أن القضاء اسم للفائت عن الوقت ، ووقت الحج باق فكان الحج فيه أداء لا قضاء ، فلا يفتقر إلى نية القضاء ، ولا تلزمه العمرة ; لأن لزومها لفوات الحج في عامه ذلك ، ولم يفت .

وقال الشافعي : عليه قضاء حجة لا غير ، وإن تحولت السنة واحتج بما روي عن ابن عباس أنه قال : " حجة بحجة ، وعمرة بعمرة " وهو المعني له في المسألة ، إن القضاء يكون مثل الفائت ، والفائت هو الحجة لا غير ، فمثلها الحجة لا غير ، وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من كسر أو عرج حل وعليه الحج من قابل } ولم يذكر العمرة ولو كانت واجبة لذكرها .

ولنا الأثر والنظر أما الأثر : فما روي عن ابن مسعود ، وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا في المحصر بحجة : " يلزمه حجة وعمرة " وأما النظر : فلأن الحج قد وجب عليه بالشروع ، ولم يمض فيه ، بل فاته في عامه ذلك ، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة فإن قيل : فائت الحج يتحلل بالطواف لا بالدم والمحصر قد حل بالدم وقام الدم مقام الطواف من الذي يفوته الحج ، فكيف يلزمه طواف آخر ؟ فالجواب : أن الدم الذي حل به المحصر ما وجب بدلا عن الطواف ليقال : إنه قام مقام الطواف ، فلا يجب عليه طواف آخر ، وإنما وجب لتعجيل الإحلال ; لأن المحصر لو لم يبعث هديا ; لبقي على إحرامه مدة مديدة ، وفيه حرج وضرر ، فجعل له أن يتعجل الخروج من إحرامه ، ويؤخر الطواف الذي لزمه بدم يهريقه فحل بالدم ولم يبطل الطواف ، وإذا لم يبطل الدم عنه الطواف ، ولم يجعل بدلا عنه ، فعليه أن يأتي به بإحرام جديد ، فيكون ذلك عمرة ، والدليل على أن دم الإحصار ما وجب بدلا عن الطواف الذي يتحلل به فائت لحج ، أن فائت الحج لو أراد أن يفسخ الطواف الذي لزمه بدم يريقه بدلا عنه ، ليس له ذلك بالإجماع ، فثبت أن دم الإحصار لتعجيل الإحلال به ، لا بدلا عن الطواف ، فاندفع الإشكال بحمد الله تعالى ومنه .

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما إن ثبت فهو تمسك بالمسكوت ; لأن قوله " حجة بحجة ، وعمرة بعمرة " يقتضي وجوب الحجة بالحجة ، والعمرة بالعمرة ، وهذا لا ينفي وجوب العمرة والحجة بالحجة ولا يقتضي أيضا ، فكان مسكوتا عنه فيقف على قيام الدليل ، وقد قام دليل الوجوب وهو ما ذكرنا وهو كقوله تعالى { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أنه لا ينفي قتل الحر بالعبد والأنثى بالذكر بالإجماع كذا هذا ، ويحمل على فائت الحج وهو الذي لم يدرك الوقوف بدليل أنه يتحلل بأفعال العمرة ، وعليه قضاء الحج من قابل ولا عمرة عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية