الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ضرر الذنوب في القلب كضرر السموم في الأبدان

فلنرجع إلى ما كنا فيه من ذكر دواء الداء الذي إن استمر أفسد دنيا العبد وآخرته .

فما ينبغي أن يعلم ، أن الذنوب والمعاصي تضر ، ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر ، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي ، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة ، دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب ؟

وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ، ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها ، وباطنه أقبح من صورته وأشنع ، وبدل بالقرب بعدا ، وبالرحمة لعنة ، وبالجمال قبحا ، وبالجنة نارا تلظى ، وبالإيمان كفرا ، وبموالاة الولي الحميد [ ص: 43 ] أعظم عداوة ومشاقة ، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش ، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان ، فهان على الله غاية الهوان ، وسقط من عينه غاية السقوط ، وحل عليه غضب الرب تعالى فأهواه ، ومقته أكبر المقت فأرداه ، فصار قوادا لكل فاسق ومجرم ، رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة ، فعياذا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك .

وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رأس الجبال ؟ وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية ، ودمرت ما مر عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم ، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة ؟

وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم ؟

وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ، ثم قلبها عليهم ، فجعل عاليها سافلها ، فأهلكهم جميعا ، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم ، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ، ولإخوانهم أمثالها ، وما هي من الظالمين ببعيد ؟

وما الذي أرسل على قوم شعيب
سحاب العذاب كالظلل ، فلما صار فوق رءوسهم أمطر عليهم نارا تلظى ؟

وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم ، فالأجساد للغرق ، والأرواح للحرق ؟

وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله ؟

وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ، ودمرها تدميرا ؟

وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم ؟

وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وقتلوا الرجال ، وسبوا الذرية والنساء ، وأحرقوا الديار ، ونهبوا الأموال ، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيرا ؟

وما الذي سلط عليهم أنواع العقوبات ، مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد ، ومرة بجور [ ص: 44 ] الملوك ، ومرة بمسخهم قردة وخنازير ، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى : ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب [ سورة الأعراف : 167 ] .

قال الإمام أحمد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمر وحدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال : لما فتحت قبرص فرق بين أهلها ، فبكى بعضهم إلى بعض ، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي ، فقلت : يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ، فقال : ويحك يا جبير ، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره ، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك ، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى .

وقال علي بن الجعد : أنبأنا شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا البختري يقول : أخبرني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم .

وفي مسند أحمد من حديث أم سلمة قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده ، فقلت : يا رسول الله ، أما فيهم يومئذ أناس صالحون ؟ قال : بلى ، قلت : كيف يصنع بأولئك ؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان .

وفي مراسيل الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءها ، وما لم يزك صلحاؤها فجارها ، وما لم يهن خيارها أشرارها ، فإذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم ، ثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب ، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر .

وفي المسند من حديث ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .

وفيه أيضا عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق ، كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، قلنا : يا رسول الله ، أمن قلة بنا يومئذ ؟ قال : أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، تنزع المهابة من قلوب عدوكم ، ويجعل في قلوبكم الوهن ، قالوا وما الوهن ؟ قال : حب الحياة وكراهة الموت .

وفي المسند من حديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم .

[ ص: 45 ] وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين ، ويلبسون للناس مسوك الضأن من اللين ، ألسنتهم أحلى من السكر ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، يقول الله عز وجل : أبي يغترون ؟ وعلي يجترئون ؟ فبي حلفت ، لأبعثن أولئك فتنة تدع الحليم فيها حيران .

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال علي : يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم يومئذ عامرة ، وهي خراب من الهدى ، علماؤهم شر من تحت أديم السماء ، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود .

وذكر من حديث سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله عز وجل بهلاكها .

وفي مراسيل الحسن : إذا أظهر الناس العلم ، وضيعوا العمل ، وتحابوا بالألسن ، وتباغضوا بالقلوب ، وتقاطعوا بالأرحام ، لعنهم الله عز وجل عند ذلك ، فأصمهم وأعمى أبصارهم .

وفي سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه فقال : يا معشر المهاجرين خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن : ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان ، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم لم يمطروا ، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم .

وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن من كان قبلكم ، كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرا ، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه ، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس ، فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والذي نفس [ ص: 46 ] محمد بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم .

وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال : أوحى الله إلى يوشع بن نون : إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم ، وستين ألفا من شرارهم ، قال : يا رب ، هؤلاء الأشرار ، فما بال الأخيار ؟ قال : لم يغضبوا لغضبي ، وكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم .

‌‌‌‌‌‌‌ وذكر أبو عمر بن عبد البر عن أبي عمران قال : بعث الله عز وجل ملكين إلى قرية ، أن دمراها بمن فيها ، فوجدا رجلا قائما يصلي في مسجد ، فقالا : يا رب ، إن فيها عبدك فلانا يصلي ، فقال الله عز وجل : دمراها ودمراه معهم ، فإنه ما تمعر وجهه في قط .

وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة : قال : حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر : أن ملكا أمر أن يخسف بقرية ، فقال : يا رب ، إن فيها فلانا العابد ، فأوحى الله إليه : أن به فابدأ ، فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط .

وذكر ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال : لما أصاب داود الخطيئة قال : يا رب اغفر لي : قال قد غفرت لك ، وألزمت عارها بني إسرائيل ، قال يا رب ، كيف وأنت الحكم العدل لا يظلم أحدا ، أنا أعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري ، فأوحى الله إليه ، إنك لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عليك بالإنكار .

وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك : أنه دخل على عائشة ، هو ورجل آخر ، فقال لها الرجل : يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة ، فقالت : إذا استباحوا الزنا ، وشربوا الخمر ، وضربوا بالمعازف ، غار الله عز وجل في سمائه ، فقال للأرض تزلزلي بهم ، فإن تابوا ونزعوا ، وإلا هدمها عليهم ، قال : يا أم المؤمنين ، أعذابا لهم ؟ قالت : بلى ، موعظة ورحمة للمؤمنين ، ونكالا وعذابا وسخطا على الكافرين ، فقال أنس : ما سمعت حديثا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أشد فرحا به مني بهذا الحديث .

وذكر ابن أبي الدنيا حديثا مرسلا : إن الأرض تزلزلت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليها ثم قال : اسكني ، فإنه لم يأن لك بعد ، ثم التفت إلى أصحابه ، فقال : إن ربكم ليستعتبكم فأعتبوه ، ثم تزلزلت بالناس على عهد عمر بن الخطاب فقال ، يا أيها الناس ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه ، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدا .

وفي مناقب عمر لابن أبي الدنيا أن الأرض تزلزلت على عهد عمر ، فضرب يده [ ص: 47 ] عليها ، وقال : ما لك ؟ ما لك ؟ أما إنها لو كانت القيامة حدثت أخبارها ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا كان يوم القيامة فليس فيها ذراع ولا شبر إلا وهو ينطق .

وذكر الإمام أحمد عن صفية ، قالت : زلزلت المدينة على عهد عمر ، فقال : يا أيها الناس ما هذا ؟ وما أسرع ما أحدثتم ، لئن عادت لا أساكنكم فيها .

وقال كعب : إنما زلزلت الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فرقا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها .

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار : أما بعد فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله عز وجل به العباد ، وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا وكذا في شهر كذا وكذا ، فمن كان عنده شيء فليتصدق به ، فإن الله عز وجل يقول : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ سورة الأعلى : 14 - 15 ] .

وقولوا كما قال آدم : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ سورة الأعراف : 23 ] .

وقولوا كما قال نوح : وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين [ سورة هود : 47 ] .

وقولوا كما قال يونس : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [ سورة الأنبياء : 87 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، وتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم رواه أبو داود بإسناد حسن .

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر قال : لقد رأينا وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم .

ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، وأخذوا أذناب البقر ، أنزل الله عليهم من السماء بلاء ، فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم .

[ ص: 48 ] وقال الحسن : إن الفتنة والله ما هي إلا عقوبة من الله عز وجل على الناس .

ونظر بعض أنبياء بني إسرائيل إلى ما يصنع بهم بختنصر ، فقال : بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا .

وقال بختنصر لدانيال : ما الذي سلطني على قومك ؟ قال : عظم خطيئتك وظلم قومي أنفسهم .

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عمار بن ياسر وحذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل إذا أراد بالعباد نقمة أمات الأطفال ، وأعقم أرحام النساء ، فتنزل النقمة ، وليس فيهم مرحوم .

وذكر عن مالك بن دينار قال : قرأت في الحكمة : يقول الله عز وجل : أنا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ، ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم .

وفي مراسيل الحسن : إذا أراد الله بقوم خيرا جعل أمرهم إلى حلمائهم ، وفيأهم عند سمحائهم ، وإذا أراد الله بقوم شرا جعل أمرهم إلى سفهائهم ، وفيأهم عند بخلائهم .

وذكر الإمام أحمد وغيره عن قتادة قال : قال موسى : يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض ، فما علامة غضبك من رضاك ؟ قال : إذا استعملت عليكم خياركم فهو من علامة رضائي عنكم ، وإذا استعملت عليكم شراركم فهو من علامة سخطي عليكم .

وذكر ابن أبي الدنيا عن الفضيل بن عياض قال : أوحى الله إلى بعض الأنبياء : إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني .

وذكر أيضا من حديث ابن عمر برفعه : والذي نفسي بيده ، لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبة ، ووزراء فجرة ، وأعوانا خونة ، وعرفاء ظلمة ، وقراء فسقة ، سيماهم سيماء الرهبان ، وقلوبهم أنتن من الجيف ، أهواؤهم مختلفة ، فيفتح الله لهم فتنة غبراء مظلمة فيتهالكون فيها ، والذي نفس محمد بيده لينقضن الإسلام عروة عروة ، حتى لا يقال : الله الله ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم أشراركم ، فيسومونكم سوء العذاب ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ، ولا يوقر كبيركم .

وفي معجم الطبراني وغيره من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ما طفف قوم كيلا ، ولا بخسوا ميزانا ، إلا منعهم الله عز وجل القطر ، وما ظهر [ ص: 49 ] في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت ، وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون ، ولا ظهر في قوم القتل - يقتل بعضهم بعضا - إلا سلط الله عليهم عدوهم ، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف ، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم ورواه ابن أبي الدنيا من حديث إبراهيم بن الأشعث عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن سعيد به .

وفي المسند وغيره من حديث عروة عن عائشة قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حفزه النفس ، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء ، فما تكلم حتى توضأ ، وخرج ، فلصقت بالحجرة ، فصعد المنبر : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس ، إن الله عز وجل يقول لكم : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتستنصروني فلا أنصركم ، وتسألوني فلا أعطيكم .

وقال العمري الزاهد : إن من غفلتك عن نفسك ، وإعراضك عن الله أن ترى ما يسخط الله فتتجاوزه ، ولا تأمر فيه ، ولا تنهى عنه ، خوفا ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا .

وقال : من ترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، مخافة من المخلوقين ، نزعت منه الطاعة ، ولو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه .

وذكر الإمام أحمد في مسنده من حديث قيس بن أبي حازم قال : قال أبو بكر الصديق : يا أيها الناس إنكم تتلون هذه الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ سورة المائدة : 105 ] .

وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه - وفي لفظ : إذا رأوا المنكر فلم يغيروه - أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده .

وذكر الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إذا خفيت الخطيئة لم تضر إلا صاحبها ، وإذا ظهرت فلم تغير ، ضرت العامة .

وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب : توشك القرى أن تخرب وهي عامرة ، قيل وكيف تخرب وهي عامرة ؟ قال : إذا علا فجارها أبرارها ، وساد القبيلة منافقوها .

وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سيظهر شرار أمتي على خيارها ، حتى يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا اليوم .

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس يرفعه قال : يأتي زمان يذوب فيه قلب [ ص: 50 ] المؤمن كما يذوب الملح في الماء ، قيل : مم ذاك يا رسول الله ؟ قال : مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره .

وذكر الإمام أحمد من حديث جرير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، وهم أعز وأكثر ممن يعمله ، فلم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب .

وفي صحيح البخاري ، عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يجاء بالرجل يوم القيامة ، فيلقى في النار ، فتندلق أقتابه في النار ، فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع عليه أهل النار ، فيقولون : أي فلان ، ما شأنك ؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : بلى ، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه .

وذكر الإمام أحمد عن مالك بن دينار قال : كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء ، فيعظهم ويذكرهم بأيام الله ، فرأى بعض بنيه يوما يغمز النساء ، فقال : مهلا يا بني ، مهلا يا بني فسقط من سريره ، فانقطع نخاعه ، وأسقطت امرأته ، وقتل بنوه ، فأوحى الله إلى نبيهم : أن أخبر فلانا الخبر : أني لا أخرج من صلبك صديقا أبدا ، ما كان غضبك لي إلا أن قلت مهلا يا بني .

وذكر الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلا ، كمثل القوم نزلوا أرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادا ، وأججوا نارا ، وأنضجوا ما قذفوا فيها .

وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات .

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت ، فدخلت النار ، لا هي أطعمتها ، ولا سقتها ، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض .

وفي الحلية لأبي نعيم عن حذيفة أنه قيل له : في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم ؟ قال : لا ، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه ، وإذا نهوا عن شيء ركبوه ، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه .

ومن هاهنا قال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر ، كما أن القبلة بريد الجماع ، والغناء بريد الزنا ، والنظر بريد العشق ، والمرض بريد الموت .

وفي الحلية أيضا عن ابن عباس أنه قال : يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته ، ولما [ ص: 51 ] يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته ، قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال - وأنت‌ على الذنب - أعظم من الذنب ، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب ، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب ، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب ، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب ، ويحك هل تدري ما كان ذنب أيوب فابتلاه بالبلاء في جسده وذهاب ماله ؟ استغاث به مسكين على ظالم يدرؤه عنه ، فلم يعنه ، ولم ينه الظالم عن ظلمه ، فابتلاه الله .

قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد قال : سمعت الأوزاعي يقول : سمعت بلال بن سعد يقول : لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت .

وقال الفضيل بن عياض : بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله ، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله .

وقيل : أوحى الله تعالى إلى موسى ، يا موسى إن أول من مات من خلقي إبليس ، وذلك أنه أول من عصاني ، وإنما أعد من عصاني من الأموات .

وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل :كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ سورة المطففين : 14 ] .

وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .

وقال حذيفة : إذا أذنب العبد ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يصير قلبه كالشاة الريداء .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أما بعد يا معشر قريش ، فإنكم أهل لهذا الأمر ما لم تعصوا الله ، فإذا عصيتموه بعث عليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب بقضيب في يده ، ثم لحا قضيبه فإذا هو أبيض يصلد .

وذكر الإمام أحمد : عن وهب قال الرب عز وجل : قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل : إني إذا أطعت رضيت ، وإذا رضيت باركت ، وليس لبركتي نهاية ، وإذا عصيت غضبت ، وإذا غضبت لعنت ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد " .

التالي السابق


الخدمات العلمية