الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

توالد المعاصي

ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها ، وتولد بعضها بعضا ، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها ، كما قال بعض السلف : إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ، وإن من ثواب [ ص: 56 ] الحسنة الحسنة بعدها ، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها : اعملني أيضا ، فإذا عملها ، قالت الثالثة كذلك وهلم جرا ، فتضاعف الربح ، وتزايدت الحسنات .

وكذلك كانت السيئات أيضا ، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة ، وصفات لازمة ، وملكات ثابتة ، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء ، حتى يعاودها ، فتسكن نفسه ، وتقر عينه .

ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة ؛ لضاقت عليه نفسه وضاق صدره ، وأعيت عليه مذاهبه ، حتى يعاودها ، حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ، ولا داعية إليها ، إلا بما يجد من الألم بمفارقتها .

كما صرح بذلك شيخ القوم الحسن بن هانئ حيث يقول :

وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها



وقال الآخر :


فكانت دوائي وهي دائي بعينه     كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزا ، وتحرضه عليها ، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها .

ولا يزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها ، حتى يرسل الله إليه الشياطين ، فتؤزه إليها أزا .

فالأول قوي جند الطاعة بالمدد ، فكانوا من أكبر أعوانه ، وهذا قوي جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية