الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ثغر اللسان

ثم يقول : قوموا على ثغر اللسان ، فإنه الثغر الأعظم ، وهو قبالة الملك ، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه ، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه : من ذكر الله [ ص: 100 ] تعالى واستغفاره ، وتلاوة كتابه ، ونصيحة عباده ، والتكلم بالعلم النافع ، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان ، لا تبالون بأيهما ظفرتم :

أحدهما : التكلم بالباطل ، فإنما المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ، ومن أكبر جندكم وأعوانكم .

الثاني : السكوت عن الحق ، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس ، كما أن الأول أخ ناطق ، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم ، أما سمعتم قول الناصح : المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، والساكت عن الحق شيطان أخرس ؟

فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل ، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق ، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق .

واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم ، وأكبهم منه على مناخرهم في النار ، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر ؟

وأوصيكم بوصية فاحفظوها : لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة ، ويكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها ويطلب من أخيه إعادتها ، وكونوا أعوانا على الإنس بكل طريق ، وادخلوا عليهم من كل باب ، واقعدوا لهم كل مرصد ، أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ سورة الأعراف 16 - 17 ] .

أوما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها ، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره ، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها ؟ وقد حذرهم ذلك رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم : إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها ، وقعد له بطريق الإسلام ، فقال له : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك ؟ فخالفه وأسلم ، فقعد له بطريق الهجرة ، فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك ؟ فخالفه وهاجر ، فقعد له بطريق الجهاد ، فقال : أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة ؟

فكهذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير ، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة ، وقولوا له في نفسه : أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل وتصير بمنزلته أنت وهو سواء ؟ أوما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه ، قال : هي أموالنا إذا أعطيناكموها صرنا مثلكم .

[ ص: 101 ] واقعدوا له بطريق الحج ، فقولوا : طريقه مخوفة مشقة ، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال ، وهكذا فاقعدوا له على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها ، ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم ، وزينوها في قلوبهم ، واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء ، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم ، فنعم العون هن لكم .

ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين ، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه .

النفس الأمارة

واعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة ، فأعيوها واستعينوا بها ، وأمدوها واستمدوا منها ، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة ، فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها ، فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة ، وانطاعت لكم أعوانها ، فاستنزلوا القلب من حصنه ، واعزلوه عن مملكته ، وولوا مكانه النفس الأمارة ، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه ، ولا تجيئكم بما تكرهونه ألبتة ، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها ، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله ، فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته ، وأردتم الأمن من ذلك ، فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح ، فزينوها وجملوها ، وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد ، وقولوا له ذق طعم هذا الوصال والتمتع بهذه العروس كما ذقت طعم الحرب ، وباشرت مرارة الطعن والضرب ، ثم وازن بين لذة هذه المسألة ، ومرارة تلك المحاربة ، فدع الحرب تضع أوزارها ، فليست بيوم وتنقضي ، وإنما هو حرب متصل بالموت ، وقواك تضعف عن حرب دائم .

واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما :

أحدهما : جند الغفلة ، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق ، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك ، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه .

الثاني : جند الشهوات ، فزينوها في قلوبهم ، وحسنوها في أعينهم ، وصولوا عليهم بهذين العسكرين ، فليس لكم في بني آدم أبلغ منهما ، واستعينوا على الغفلة بالشهوات ، وعلى الشهوات بالغفلة ، واقرنوا بين الغافلين ، ثم استعينوا بهما على الذاكر ، ولا يغلب واحد خمسة ، فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة ، وشيطان الذاكر معهم ، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم - من ذكر الله ومذاكرة أمره ونهيه ودينه ، ولم تقدروا على تفريقهم - فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين ، فقربوهم منهم ، وشوشوا عليهم بهم ، [ ص: 102 ] وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها ، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته ، فساعدوه عليها ، وكونوا له أعوانا على تحصيلها ، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور ، فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور ، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب ، فلا تصطادوا بني آدم في أعظم من هذين الموطنين .

واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور ، فخذوا عليه طريق الشهوة ، ودعوا طريق الغضب ، ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب ، فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه ، ولا تعطلوا ثغرها ، فإن لم يملك نفسه عند الغضب ، فإنه الحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة ، فزوجوا بين غضبه وشهوته ، وامزجوا أحدهما بالآخر ، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب ، وإلى الغضب من طريق الشهوة .

واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين ، وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة ، وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب ، فبه قطعت أرحامهم ، وسفكت دماءهم ، وبه قتل أحد ابني آدم أخاه .

واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، والشهوة تثور من قلبه ، وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير ، فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة ، فإن ذلك يطفئ عنهم نار الغضب والشهوة ، وقد أمرهم نبيهم بذلك فقال : إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن أحس بذلك فليتوضأ .

وقال لهم : إنما تطفأ النار بالماء ، وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة ، فحولوا بينهم وبين ذلك ، وأنسوهم إياه ، واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب ، وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها : الغفلة واتباع الهوى . وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى ، فإذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظله ولا تدنوا منه .

والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ويعينهم بها على نفسه ، فيقاتلون بسلاحه ، ويكون معهم على نفسه ، وهذا غاية الجهل .


ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه



ومن العجائب أن العبد يسعى بجهده في هوان نفسه ، وهو يزعم أنه لها مكرم [ ص: 103 ] ويجتهد في حرمانها أعلى حظوظها وأشرفها وهو يزعم أنه يسعى في حظها ، ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدنيسها ، وهو يزعم أنه يعليها ويرفعها ويكبرها .

وكان بعض السلف يقول في خطبته : ألا رب مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم ، ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معز ، ومصغر لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبر ، ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحفظها ، وكفى بالمرء جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه ، يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه عدوه ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية