الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

الذنوب كبائر وصغائر

وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة ، على أن من الذنوب كبائر وصغائر ، قال الله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ سورة النساء : 31 ] .

وقال تعالى : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم [ سورة النجم : 32 ] .

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .

وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات :

إحداها : أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها والقيام بحقوقها ، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية .

الثانية : أن تقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر .

الثالثة : أن تقوى على تكفير الصغائر وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر .

فتأمل هذا فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة .

وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .

وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديقها :

[ ص: 126 ] والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [ سورة الفرقان : 68 ] .

عدد الكبائر

واختلف الناس في الكبائر : هل لها عدد يحصرها ؟ على قولين .

ثم الذين قالوا بحصرها اختلفوا في عددها ، فقال عبد الله بن مسعود : هي أربع ، وقال عبد الله بن عمر : هي سبع ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هي تسعة ، وقال غيره : هي إحدى عشرة ، وقال آخر : هي سبعون .

وقال أبو طالب المكي : جمعتها من أقوال الصحابة ، فوجدتها : أربعة في القلب ، وهى : الشرك بالله ، والإصرار على المعصية ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله .

وأربعة في اللسان ، وهى : شهادة الزور ، وقذف المحصنات ، واليمين الغموس ، والسحر .

وثلاث في البطن : شرب الخمر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا .

واثنتان في الفرج ، وهما : الزنا ، واللواط .

واثنتان في اليدين ، وهما : القتل ، والسرقة .

وواحدة في الرجلين ، وهى : الفرار من الزحف .

وواحد يتعلق بجميع الجسد ، وهو : عقوق الوالدين .

والذين لم يحصروها بعدد ، منهم من قال : كل ما نهى الله عنه في القرآن فهو كبيرة ، وما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو صغيرة .

وقالت طائفة : ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن أو غضب أو عقوبة فهو كبيرة ، وما لم يقترن به شيء من ذلك فهو صغيرة .

وقيل : كل ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة ، فهو كبيرة ، وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا ، فهو صغيرة .

وقيل : كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر ، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة .

وقيل : كل ما لعن الله أو رسوله فاعله فهو كبيرة .

وقيل : كل ما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ سورة النساء : 31 ] .

[ ص: 127 ] الذين لم يقسموها إلى كبائر

والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر ، قالوا : الذنوب كلها بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره ، كبائر ، فالنظر إلى من عصى أمره وانتهك محارمه ، يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر ، وهي مستوية في هذه المفسدة .

قالوا : ويوضح هذا أن الله سبحانه لا تضره الذنوب ولا يتأثر بها ، فلا يكون بعضها بالنسبة إليه أكبر من بعض ، فلم يبق إلا مجرد معصيته ومخالفته ، ولا فرق في ذلك بين ذنب وذنب .

قالوا : ويدل عليه أن مفسدة الذنوب إنما هي تابعة للجراءة والتوثب على حق الرب تبارك وتعالى ، ولهذا لو شرب رجل خمرا ، أو وطئ فرجا حراما ، وهو لا يعتقد تحريمه ، لكان قد جمع بين الجهل وبين مفسدة ارتكاب الحرام ، ولو فعل ذلك من يعتقد تحريمه ، لكان آتيا بإحدى المفسدتين ، وهو الذي يستحق العقوبة دون الأول ، فدل على أن مفسدة الذنب تابعة للجراءة والتوثب .

قالوا : ويدل على هذا أن المعصية تتضمن الاستهانة بأمر المطاع ونهيه وانتهاك حرمته ، وهذا لا فرق فيه بين ذنب وذنب .

قالوا : فلا ينظر العبد إلى كبر الذنب وصغره في نفسه ، ولكن ينظر إلى قدر من عصاه وعظمته ، وانتهاك حرمته بالمعصية ، وهذا لا يفترق فيه الحال بين معصية ومعصية ، فإن ملكا مطاعا عظيما لو أمر أحد مملوكيه أن يذهب في مهم له إلى بلد بعيد ، وأمر آخر أن يذهب في شغل له إلى جانب الدار ، فعصياه وخالفا أمره ، لكانا في مقته والسقوط من عينه سواء .

قالوا : ولهذا كانت معصية من ترك الحج من مكة وترك الجمعة وهو جار المسجد ، أقبح عند الله من معصية من ترك من المكان البعيد ، والواجب على هذا أكثر من الواجب على هذا ، ولو كان مع رجل مائتا درهم ومنع زكاتها ، ومع آخر مائتا ألف درهم فمنع من زكاتها ؛ لاستويا في منع ما وجب على كل واحد منهما ، ولا يبعد استواؤهما في العقوبة ، إذا كان كل منهما مصرا على منع زكاة ماله ، قليلا كان المال أو كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية