صفحة جزء
ذكر بعض سيرة المنصور

قال سلام الأبرش : كنت أخدم المنصور داخلا [ في منزله ] ، وكان من أحسن الناس [ ص: 199 ] خلقا ، ما لم يخرج إلى الناس ، وأشد احتمالا لما يكون من عبث الصبيان ، فإذا لبس ثوبه اربد لونه ، واحمرت عيناه فيخرج منه ما يكون .

وقال لي يوما : يا بني ! إذا رأيتني قد لبست ثيابي ، أو رجعت من مجلسي فلا يدنون مني منكم أحد مخافة أن أغره بشيء .

قال : ولم ير في دار المنصور لهو ، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث ، إلا مرة واحدة ، رئي بعض أولاده وقد ركب راحلة ، وهو صبي ، وتنكب قوسا في هيئة الغلام الأعرابي ، بين جوالقين فيهما مقل ومساويك وما يهديه الأعراب ، فعجب الناس من ذلك ، وأنكروه ، فعبر إلى المهدي بالرصافة فأهداه له ، فقبله وملأ الجوالقين دراهم ، فعاد بينهما ، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك .

قال حماد التركي : كنت واقفا على رأس المنصور ، فسمع جلبة ، فقال : انظر ما هذا ! فذهبت فإذا خادم له قد جلس حوله الجواري ، وهو يضرب لهن بالطنبور ، وهن يضحكن ، فأخبرته ، فقال : وأي شيء الطنبور ؟ ، فوصفته له ، فقال : ما يدريك أنت ما الطنبور ؟ قلت : رأيته بخراسان . فقام ومشى إليهن ، فلما رأينه تفرقن ، فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور ، حتى تكسر الطنبور ، وأخرج الخادم فباعه .

قال : وكان المنصور قد استعمل معن بن زائدة على اليمن ، لما بلغه من الاختلاف هناك ، فسار إليه وأصلحه ، وقصده الناس من أقطار الأرض لاشتهار جوده ، ففرق فيهم الأموال ، فسخط عليه المنصور .

فأرسل إليه معن بن زائدة وفدا من قومه ، فيهم مجاعة بن الأزهر ، وسيرهم إلى المنصور ليزيلوا غيظه وغضبه ، فلما دخل على المنصور ابتدأ مجاعة بحمد الله والثناء عليه ، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطنب في ذلك حتى عجب القوم ، ثم ذكر المنصور وما شرفه الله به ، وذكر بعد ذلك صاحبه .

فلما انقضى كلامه قال : أما ما ذكرت من حمد الله ، فالله أجل من أن تبلغه الصفات ، وأما ما ذكرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد فضله الله تعالى بأكثر مما قلت ، وأما ما [ ص: 200 ] وصفت به أمير المؤمنين ، فإنه فضله الله بذلك ، وهو معينه على طاعته ، إن شاء الله تعالى ، وأما ما ذكرت من صاحبك ، فكذبت ولؤمت ، اخرج ، فلا يقبل ما ذكرته .

فلما صاروا بآخر الأبواب أمر برده مع أصحابه ، فقال : ما قلت ؟ فأعاده عليه ، فأخرجوا ، ثم أمر بهم ، فأوقفوا ، ثم التفت إلى من حضر من مضر ، فقال : هل تعرفون فيكم مثل هذا ؟ والله لقد تكلم حتى حسدته ، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال حسده لأنه من ربيعة ، وما رأيت مثله رجلا أربط جأشا ، ولا أظهر بيانا ، رده يا غلام .

فلما صار بين يديه قال : اقصد لحاجتك ! قال : يا أمير المؤمنين ، معن بن زائدة عبدك ، وسيفك ، وسهمك ، رميت به عدوك ، فضرب ، وطعن ، ورمى حتى سهل ما حزن ، وذل ما صعب ، واستوى ما كان معوجا من اليمن ، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءه ، فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساع ، أو واش ، فأمير المؤمنين أولى بالفضل على عبده ، ومن أفنى عمره في طاعته .

فقبل عذره وأمر بصرفهم إليه ، فلما قرأ معن الكتاب بالرضا ، قبل ما بين عينيه ، وشكر أصحابه ، وأجازهم على أقدارهم ، وأمرهم بالرحيل إلى المنصور .

فقال مجاعة :


آليت في مجلس من وائل قسما ألا أبيعك يا معن بأطماع     يا معن ! إنك قد أوليتني نعما
عمت لحيما وخصت آل مجاع     فلا أزال إليك الدهر منقطعا
حتى يشيد بهلكي هتفه الناعي

.

وكان [ من ] نعم معن على مجاعة أنه قضى له ثلاث حوائج منها : أنه كان يتعشق جارية من أهل بيت معن ، اسمها زهراء ، فطلبها ، فلم يجبه لفقره ، فطلبها من معن ، فأحضر أباها ، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم ، وأمهرها من عنده .

ومنها : أنه طلب منه حائطا بعينه ، فاشتراه له .

ومنها أنه استوهب منه شيئا ، فوهب له ثلاثين ألف درهم تمام مائة ألف .

قيل : وكان المنصور يقول : ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم ، هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم ، أما أحدهم فقاض [ ص: 201 ] لا تأخذه في الله لومة لائم ، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي ، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية .

ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات ، يقول في كل مرة : آه آه . قيل : ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة .

وقيل : دعا المنصور بعامل قد كسر خراجه ، فقال له : أد ما عليك ! فقال : والله ما أملك شيئا . وأذن مؤذن : أشهد أن لا إله إلا الله ! فقال : يا أمير المؤمنين ، هب ما علي لله وشهادة أن لا إله إلا الله . فخلى سبيله .

وقيل : وأتي بعامل ، فحبسه وطالبه ، فقال العامل : عبدك يا أمير المؤمنين ، فقال : بئس العبد أنت ! فقال : لكنك نعم المولى . قال : أما لك فلا .

قيل : وأتي بخارجي قد هزم له جيوشا ، فأراد ضرب رقبته ، ثم ازدراه فقال : يا ابن الفاعلة ! مثلك يهزم الجيوش ؟ ! فقال له : ويلك وسوأة لك أمس ، بيني وبينك السيف ، واليوم القذف والسب ، وما كان يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها أبدا ؟ فاستحيا منه المنصور وأطلقه .

قيل : وكان شغل المنصور ، في صدر نهاره ، بالأمر والنهي ، والولايات ، والعزل ، وشحن الثغور والأطراف ، وأمن السبل ، والنظر في الخراج والنفقات ، ومصلحة معاش الرعية ، والتلطف بسكونهم وهديهم ، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته .

فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من كتب الثغور والأطراف والآفاق ، وشاور سماره ، فإذا مضى ثلث الليل ( قام إلى فراشه ، وانصرف سماره ، وإذا مضى الثلث الثاني قام فتوضأ وصلى ، حتى يطلع الفجر ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيجلس في إيوانه .

[ ص: 202 ] قيل : وقال للمهدي : لا تبرم أمرا حتى تفكر فيه ، فإن فكر العاقل مرآته تريه حسنه وسيئه . يا بني ! لا يصلح السلطان إلا بالتقوى ، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة ، ولا تعمر البلاد بمثل العدل ، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة ، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه ، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره .

يا أبا عبد الله ! لا تجلس مجلسا إلا ومعك من [ أهل ] العلم من يحدثك ، ومن أحب أن يحمد أحسن السيرة ، ومن أبغض الحمد أساءها ، وما أبغض الحمد أحد إلا استذم ، وما استذم إلا كره .

يا أبا عبد الله ! ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه ، بل العاقل الذي يحتال للأمر حتى لا يقع فيه .

وقال للمهدي يوما : كم راية عندك ؟ قال : لا أدري . قال : ( هذا والله التضييع ، وأنت ) لأمر الخلافة أشد تضييعا ، ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت ، فاتق الله فيما خولك .

قيل : وقال إسحاق بن عيسى : لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة ، غير المنصور ، وأخيه العباس بن محمد ، وعمهما داود بن علي .

قيل : وخطب المنصور يوما ، فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأؤمن به ، وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . فاعترضه إنسان فقال : أيها الإنسان أذكرك من ذكرت به ! فقطع الخطبة ، ثم قال : سمعا ، سمعا لمن حفظ عن الله ، وأعوذ بالله أن أكون جبارا عنيدا ، أو تأخذني العزة بالإثم ، لقد ضللت إذا ، وما أنا من المهتدين .

وأنت أيها القائل ، فوالله ما أردت بهذا القول الله ، ولكنك أردت أن يقال قام ، فقال ، فعوقب ، فصبر ، وأهون بها ، ويلك ، لقد هممت ، واغتنمها إذ عفوت ، وإياك ، وإياكم معاشر المسلمين أختها ، فإن الحكمة علينا نزلت ، ومن عندنا فصلت ، فردوا الأمر إلى أهله ، توردوه موارده ، وتصدروه مصادره .

[ ص: 203 ] ثم عاد إلى خطبته ، كأنما يقرأها ، فقال : وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

وقال عبد الله بن صاعد : خطب المنصور بمكة ، بعد بناء بغداذ ، فكان مما قال : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) . أمر مبرم ، وقول عدل ، وقضاء فصل ، والحمد لله الذي أفلج حجته ، وبعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غضا ، والفيء إرثا و ( جعلوا القرآن عضين ) ، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، فكم من بئر معطلة ، وقصر مشيد أهملهم الله حين بدلوا السنة ، واضطهدوا العترة ، وعندوا ، واعتدوا ، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد ، ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) .

قال : وكتب إليه رجل يشكو بعض عماله ، فوقع إلى العامل في الرقعة : إن آثرت العدل صحبتك السلامة ، وإن آثرت الجور فما أقربك من الندامة ، فأنصف هذا المتظلم من الظلامة .

قيل : وكتب إلى [ المنصور ] صاحب أرمينية يخبره أن الجند قد شغبوا عليه ، ونهبوا ما في بيت المال ، فوقع في كتابه : اعتزل عملنا مذموما مدحورا ، فلو عقلت لم يشغبوا ، ولو قويت لم ينهبوا .

وهذا وما تقدم من كلامه ووصاياه يدل على فصاحته وبلاغته ، وقد تقدم له أيضا من الكتب وغيرها ما يدل على أنه كان واحد زمانه ، إلا أنه كان يبخل .

ومما نقل عنه من ذلك قول الوضين بن عطاء : استزارني المنصور ، وكان بيني وبينه خلة قبل الخلافة ، فخلونا يوما ، فقال : يا أبا عبد الله ! ما لك ؟ قلت : الخبر الذي تعرفه .

قال : وما عيالك ؟ قلت : ثلاث بنات ، والمرأة ، وخادم لهن . فقال : أربع في بيتك ؟ قلت : نعم ! [ ص: 204 ] فرددها ، حتى ظننت أنه سيعينني ، ثم قال : أنت أيسر العرب ، أربعة مغازل يدرن في بيتك .

قيل : رفع غلام لأبي عطاء الخراساني أن له عشرة آلاف درهم ، فأخذها منه وقال : هذا مالي . قال : من أين يكون مالك ، ووالله ما وليتك عملا قط ، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة ! قال : بلى ! [ كنت ] تزوجت امرأة لعيينة بن موسى بن كعب ، فورثتك مالا ، وكان قد عصى بالسند ، [ وهو وال على السند ] ، وأخذ مالي فهذا المال من ذاك .

وقيل لجعفر الصادق : إن المنصور يكثر من لبس جبة هروية ، وإنه يرقع قميصه . فقال جعفر : الحمد لله الذي لطف به ، حتى ابتلاه بفقر نفسه في ملكه .

قيل : وكان المنصور إذا عزل عاملا أخذ ماله وتركه في بيت مال مفرد سماه بيت مال المظالم ، وكتب عليه اسم صاحبه ، وقال للمهدي : قد هيأت لك شيئا فإذا أنا مت فادع من أخذت ماله ، فاردده عليه ، فإنك تستحمد بذلك إليهم وإلى العامة ، ففعل المهدي ذلك .

وله في ضد ذلك أشياء كثيرة .

قيل : وذكر زيد مولى عيسى بن نهيك قال : دعاني المنصور ، بعد موت مولاي ، فسألني : كم خلف من مال ؟ قلت : ألف دينار ، وأنفقته امرأته في مأتمه . قال : كم خلف من البنات ؟ قلت : ستا ، فأطرق ، ثم رفع رأسه وقال : اغد إلى المهدي ، فغدوت إليه ، فأعطاني مائة ألف وثمانين ألف دينار ، لكل واحدة منهن ثلاثين ألفا . ثم دعاني المنصور فقال : عد علي بأكفائهن حتى أزوجهن ، ففعلت ، فزوجهن ، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله ، لكل واحدة منهن ثلاثون ألف درهم ، وأمرني أن أشتري بمالهن ضياعا لهن يكون معاشهن منها .

قيل : وفرق المنصور على جماعة من أهل بيته في يوم واحد ، عشرة آلاف ألف درهم ، وأمر لجماعة من أعمامه منهم : سليمان ، وعيسى ، وصالح ، وإسماعيل ، لكل رجل منهم بألف ألف ، وهو أول من وصل بها .

[ ص: 205 ] وله في ذلك أيضا أخبار كثيرة ، وأما غير ذلك ، قال يزيد بن عمر بن هبيرة : ما رأيت رجلا قط في حرب ، ولا سمعت به في سلم أنكر ، ولا أمكر ، ولا أشد تيقظا من المنصور .

لقد حصرني تسعة أشهر ، ومعي فرسان العرب ، فجهدنا بكل الجهد أن ننال من عسكره شيئا ، فما تهيأ ، ولقد حصرني وما في رأسي شعرة بيضاء ، فخرجت إليه وما في رأسي شعرة سوداء .

قيل : وأرسل ابن هبيرة إلى المنصور ، وهو محاصره ، يدعو إلى المبارزة ، فكتب إليه : إنك متعد طورك ، جار في عنان غيك ، يعدك الله ما هو مصدقه ، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه ، ويقرب ما الله مباعده ، فرويدا يتم الكتاب أجله . ، وقد ضربت مثلي ومثلك : بلغني أن أسدا لقي خنزيرا ، فقال له الخنزير : قاتلني ! فقال الأسد : إنما أنت خنزير ، ولست بكفؤ لي ولا نظير ، ومتى قاتلتك فقتلتك قيل لي : قتل خنزيرا ، فلا أعتقد فخرا ، ولا ذكرا ، وإن نالني منك شيء كان سبة علي . فقال الخنزير : إن لم تفعل أعلمت السباع أنك نكلت عني ، فقال الأسد : احتمال عار كذبك علي أيسر من لطخ شرابي بدمك .

قيل : وكان المنصور أول من عمل الخيش ، فإن الأكاسرة كانوا يطينون كل يوم بيتا يسكنون في الصيف ، وكذلك بنو أمية .

قيل : وأتي برجل من بني أمية ، فقال : إني أسألك عن أشياء ، فاصدقني ولك الأمان . قال : نعم ! قال : من أين أتي بنو أمية ؟ قال : من تضييع الأخبار . قال : فأي الأموال وجدوها أنفع ؟ قال : الجوهر . قال : فعند من وجدوا الوفاء ؟ قال : عند مواليهم ، فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته ، فقال : اضع منهم ، فاستعان بمواليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية