صفحة جزء
[ ص: 241 ] 166

ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

في هذه السنة أخذ المهدي البيعة لولده هارون الرشيد بولاية العهد ، بعد أخيه موسى الهادي ، ولقبه الرشيد . وفيها عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة ، واستقضي خالد بن طليقبن عمران بن حصين ، فاستعفى أهل البصرة منه .

ذكر القبض على يعقوب بن داود

وفي هذه سخط المهدي على وزيره يعقوب بن داود بن طهمان ، ( وكان أول أمرهم أن داود بن طهمان ) ، وهو أبو يعقوب ، كان يكتب لنصر بن سيار ، هو وإخوته ، فلما كان أيام يحيى بن زيد كان داود يعلمه ما يسمعه من نصر ، فلما طلب أبو مسلم الخراساني بدم يحيى بن زيد أتاه داود ، لما كان بينه وبين يحيى ، فآمنه أبو مسلم في نفسه ، وأخذ ماله الذي استفاد أيام نصر .

فلما مات داود خرج أولاده أهل أدب وعلم ، ولم يكن لهم عند بني العباس منزلة ، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر ، وأظهروا مقالة الزيدية ودنوا من آل الحسين ، وطمعوا أن تكون لهم دولة ، فكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أحيانا .

وخرج معه هو وعدة من إخوته ، فلما قتل إبراهيم طلبهم المنصور ، فأخذ يعقوب وعليا وحبسهما ، فلما توفي المنصور أطلقهما المهدي مع من أطلقه ، وكان معهما الحسن بن إبراهيم ، فاتصل إلى المهدي بسببه ، كما تقدم ذكره .

وقيل : اتصل به بالسعاية بآل علي ، ولم يزل أمره يرتفع ، حتى استوزره .

وكان المهدي يقول : وصف لي يعقوب في منامي ، فقيل لي : استوزره ، فلما رأيته [ ص: 242 ] رأيت الخلقة التي وصفت لي ، فاتخذته وزيرا ، فلما ولي الوزارة أرسل إلى الزيدية ، فجمعهم وولاهم أمور الخلافة في المشرق والمغرب ، ولذلك قال بشار بن برد :



بني أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داود     ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الناي والعود

.

فحسده موالي المهدي ، وسعوا به ، وقيل له : إن الشرق والغرب في يد يعقوب وأصحابه ، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد فيأخذوا الدنيا [ لإسحاق بن الفضل ] ، فملأ ذلك قلب المهدي .

ولما بنى المهدي عيساباذ أتاه خادم من خدمه فقال له : إن أحمد بن إسماعيل بن علي قال لي : أبنى متنزها أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت المال ؟ فحفظها المهدي ، ونسي أحمد بن إسماعيل ، وظن أن يعقوب قالها ، فبينما يعقوب بين يديه إذ لببه فضرب به الأرض ، وقال : ألست القائل كيت وكيت ؟ فقال : والله ما قلته ولا سمعته ! قال : وكان السعاة يسعون ليلا ، ويتفرقون وهم يعتقدون أنه يقبضه بكرة فإذا أصبح غدا عليه ، فإذا نظر إليه تبسم وسأله عن مبيته .

وكان المهدي مستهترا بالنساء ، فيخوض يعقوب معه في ذلك ، فيفترقان عن رضى

ثم إنه كان ليعقوب برذون كان يركبه ، فخرج يوما من عند المهدي وعليه طيلسان يتقعقع من كثرة دقه ، والبرذون مع الغلام وقد نام الغلام ، فركب يعقوب ، وأراد تسوية الطيلسان ، فنفر من قعقعته فسقط ، فدنا من دابته ، فرفسه ، فانكسر ساقه ، فانقطع عن الركوب .

فعاده المهدي من الغد ، ثم انقطع عنه ، فتمكن السعاة منه ، فأظهر المهدي السخط عليه ، ثم أمر به فسجن في سجن نصر ، وأخذ عماله وأصحابه فحبسوا .

وقال يعقوب بن داود : بعث إلي المهدي يوما ، فدخلت عليه وهو في مجلس مفروش بفرش مورد على بستان فيه شجر ، ورءوس الشجر مع صحن المجلس ، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأزهار ، فما رأيت شيئا أحسن منه ، وعنده جارية عليها نحو ذلك الفرش ما رأيت أحسن منها .

فقال لي : يا يعقوب ! كيف ترى مجلسنا هذا ؟ قلت : على [ ص: 243 ] غاية الحسن ، فمتع الله أمير المؤمنين به قال : هو لك بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به ، قال : فدعوت له .

ثم قال لي : يا يعقوب ، ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي قضاءها ، قلت : الأمر لأمير المؤمنين ، وعلي السمع والطاعة ، فاستحلفني بالله وبرأسه ، فحلفت لأعملن بما قال ، فقال : هذا فلان بن فلان من ولد علي بن أبي طالب ، وأحب أن تكفيني مئونته وتريحني منه وتعجل ذلك ، قلت : أفعل .

فأخذته وأخذت الجارية وجميع ما في المجلس ، وأمر لي بمائة ألف درهم ، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر ، وأدخلت العلوي إلي وسألته عن حاله ، فأخبرني وإذا هو أعقل الناس ، وأحسنهم إبانة عن نفسه ، ثم قال : ويحك يا يعقوب ، تلقى الله بدمي ، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - !

قلت : لا والله ، فهل فيك أنت خير ؟ قال : إن فعلت خيرا شكرت ، ولك عندي دعاء واستغفار .

فقلت : أي الطرق أحب إليك ؟ قال : كذا وكذا ، فأرسلت إلى من يثق إليه العلوي ، فأخذه وأعطيته مالا ، وأرسلت الجارية إلى المهدي تعلمه الحال فأرسل إلى الطريق ، فأخذ العلوي وصاحبه والمال .

فلما كان الغد استحضرني المهدي وسألني عن العلوي ، فأخبرته أني قتلته ، فاستحلفني بالله وبرأسه ، فحلفت له ، فقال : يا غلام أخرج إلينا ما في هذا البيت ، فأخرج العلوي وصاحبه والمال ، فبقيت متحيرا ، وامتنع مني الكلام فما أدري ما أقول ، فقال المهدي : قد حل لي دمك ، ولكن احبسوه في المطبق ولا أذكر به .

فحبست في المطبق ، واتخذ لي فيه بئر ، فدليت فيها ، فبقيت مدة لا أعرف عددها ، وأصبت ببصري .

قال : فإني لكذلك إذ دعي بي ، وقيل لي : سلم على أمير المؤمنين ! فسلمت ، قال : أي أمير المؤمنين أنا ؟ قلت : المهدي ، قال رحم الله المهدي قلت : فالهادي ، قال : رحم الله الهادي . قلت : فالرشيد ، قال : نعم ! سل حاجتك . قلت : المقام بمكة ، فما بقي في مستمتع لشيء ولا بلاغ ، فأذن لي ، فسرت إلى مكة ، قال : فلم تطل أيامه بها حتى مات .

وكان يعقوب قد ضجر بموضعه قبل حبسه ، وكان أصحاب المهدي يشربون عنده ، فكان يعقوب ينهاه عن ذلك ، ويعظه ، ويقول : ليس على هذا استوزرتني ، ولا عليه [ ص: 244 ] صحبتك ، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ ؟ فضيق على المهدي حتى قيل :

فدع عنك يعقوب بن داود جانبا وأقبل على صهباء طيبة النشر

وقال يعقوب يوما للمهدي في أمر أراده : هذا والله السرف ! فقال المهدي : ويحك يا يعقوب ، إنما يحسن السرف بأهل الشرف . ولولا السرف لم يعرف المكثرون من المقلين .

التالي السابق


الخدمات العلمية