صفحة جزء
ذكر القبض على عبد الملك بن صالح

وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس .

وكان سبب ذلك أنه كان له ولد اسمه عبد الرحمن ، وبه كان يكنى ، وكان من رحال الناس ، فسعى بأبيه هو وقمامة كاتب أبيه ، وقالا للرشيد : إنه يطلب الخلافة ، ويطمع فيها . فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع ، وأحضره يوما حين سخط عليه ، وقال له : أكفرا بالنعمة ، وجحودا لجليل المنة والتكرمة ؟

فقال : يا أمير المؤمنين ، لقد بؤت إذا بالندم ، وتعرضت لاستحلال النقم ، وما ذاك إلا بغي حاسدنا ، فنسي فيك مودة القرابة وتقديم الولاية ، إنك يا أمير المؤمنين ، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته ، وأمينه على عترته ، لك عليها فرض الطاعة ، وأداء النصيحة ، ولها عليك العدل في حكمها ، والغفران لذنوبها ، والتثبت في حادثها .

فقال له الرشيد : أتضع [ لي ] من لسانك ، وترفع [ لي ] من جنانك ؟ هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك وفساد نيتك ، فاسمع كلامه .

فقال عبد الملك : أعطاك ما ليس في عقده ، ولعله لا يقدر أن يعضهني أو يبهتني بما لم يعرفه مني .

فأحضر قمامة فقال له الرشيد : تكلم غير هائب ولا خائف ! فقال : أقول : إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك .

[ ص: 355 ] فقال عبد الملك : كيف لا يكذب علي من خلفي [ وهو ] يبهتني في وجهي ؟

فقال الرشيد : فهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك ، وفساد نيتك ، ولو أردت أن أحتج عليك لم أجد أعدل من هذين الاثنين لك ، فلم تدفعهما عنك ؟

فقال عبد الملك : هو مأمور ، أو عاق مجبور ، فإن كان مأمورا فمعذور ، وإن كان عاقا ففاجر كفور ، أخبر الله - عز وجل - بعداوته ، وحذر منه بقوله : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم فنهض الرشيد وهو يقول : ما أمرك إلا قد وضح ، ولكني لا أعجل ، حتى أعلم الذي يرضي الله - عز وجل - فيك ، فإنه الحكم بيني وبينك .

فقال عبد الملك : رضيت بالله حكما ، وبأمير المؤمنين حاكما ، فإني أعلم أنه لن يؤثر هواه على رضى ربه .

وأحضره الرشيد يوما آخر ، فكان مما قال له : أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

ثم قال : أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع ، وعارضها قد لمع ، وكأني بالوعيد قد أورى زنادا يسطع ، فأقلع عن براجم بلا معاصم ، ورءوس بلا غلاصم ، فمهلا مهلا بني هاشم ، فبي والله سهل لكم الوعر ، وصفا لكم الكدر ، وألقت إليكم الأمور أزمتها ، فنذار لكم نذار قبل حلول داهية ، خبوط باليد ، لبوط بالرجل .

فقال عبد الملك : اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك من رعيته التي استرعاك ، [ ص: 356 ] ولا تجعل الكفر مكان الشكر ، ولا العقاب موضع الثواب ، فقد نخلت لك النصيحة ، ومحضت لك الطاعة ، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم ، وتركت عدوك مشتغلا ، فالله الله ( في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته ، بظن أفصح الكتاب [ لي ] بعضهه ، أو ببغي باغ ينهس اللحم ، ويلغ الدم ، فقد والله سهلت لك الوعور ، وذللت لك الأمور ، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور ، فكم [ من ] ليل تمام فيك كابدته ، ومقام ضيق [ لك ] قمته ، كنت [ فيه ] كما قال أخو بني جعفر بن كلاب - يعني لبيدا - : ومقام ضيق فرجته ببيان ولسان وجدل لو يقوم الفيل أو فياله زل عن مثل مقامي وزحل

فقال له الرشيد : والله لولا إبقائي على بني هاشم لضربت عنقك . ثم أعاده إلى محبسه .

فدخل عبد الله بن مالك على الرشيد ، وكان على شرطته ، فقال له : والله العظيم يا أمير المؤمنين ما علمت عبد الملك إلا ناصحا ، فعلام حبسته ؟ فقال : بلغني عنه ما أوحشني ، ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين - يعني الأمين والمأمون - فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه . فقال : أما إذ حبسته ، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه ، ولكن تحبسه محبسا كريما . قال : فإني أفعل . فأمر الفضل بن الربيع أن يمضي إليه ، [ ص: 357 ] وينظر ما يحتاج إليه فيوظفه له ، ففعل .

ولم يزل عبد الملك محبوسا حتى مات الرشيد ، فأخرجه الأمين واستعمله على الشام ، فأقام بالرقة ، وجعل لمحمد الأمين عهد الله لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدا ، فمات قبل الأمين ، وكان ما قال للأمين : إن خفت فالجأ إلي فوالله لأصوننك .

وقال الرشيد يوما لعبد الملك : ما أنت لصالح ! قال : فلمن أنا ؟ قال : لمروان الجعدي . قال : ما أبالي أي الفحلين غلب علي .

وأرسل الرشيد يوما إلى يحيى بن خالد بن برمك : إن عبد الملك أراد الخروج علي ومنازعتي في الملك ، وعلمت ذلك ، فأعلمني ما عندك فيه ، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك .

فقال : والله ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا ، ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك ، لأن ملكك كان ملكي ، وسلطانك كان سلطاني ، والخير والشر كان فيه علي ولي ، وكيف يطمع عبد الملك في ذلك مني ، وهل كان إذا فعلت به ذلك ، يفعل معي أكثر من فعلك ؟ وأعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن ، ولكنه كان رجلا محتملا يسرني أن يكون في أهلك مثله ، فوليته لما حمدت أثره ومذهبه ، وملت إليه لأدبه واحتماله .

فلما أتاه الرسول بهذا أعاده عليه فقال له : إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك .

فقال له : أنت مسلط علينا ، فافعل ما أردت . فأخذ الرسول الفضل فأقامه ، فودع أباه وقال له : ألست راضيا عني ؟ قال : بلى ، فرضي الله عنك . ففرق بينهما ثلاثة أيام ، فلما لم يجد عندهما في ذلك شيئا جمعهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية