ذكر 
ملك ابنه  سابور ذي الأكتاف  
وهو  
سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك  ، وقيل : ملك بوصية أبيه له ، فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق ، وتقلد الوزراء والكتاب ما كانوا يعملونه في ملك أبيه . 
وسمع الملوك أن ملك 
الفرس  صغير في المهد ، فطمعت في مملكتهم 
الترك  والعرب 
والروم  ، وكانت العرب أقرب إلى 
بلاد فارس  ، فسار جمع عظيم منهم في البحر من 
عبد القيس  والبحرين  إلى 
بلاد فارس  وسواحل  
أردشير  خرة ، وغلبوا أهلها على مواشيهم ومعايشهم ، وأكثروا الفساد ، وغلبت إياد على سواد 
العراق  وأكثروا الفساد فيهم ، فمكثوا حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لصغر ملكهم . 
فلما ترعرع  
سابور  وكبر كان أول ما عرف من حسن فهمه أنه سمع في البحر ضوضاء وأصواتا فسأل عن ذلك فقيل : إن الناس يزدحمون في الجسر الذي على 
دجلة  مقبلين ومدبرين ، فأمر بعمل جسر آخر يكون أحدهما للمقبلين والآخر للمدبرين ، فاستبشر الناس بذلك .  
[ ص: 359 ] فلما بلغ ست عشرة سنة وقوي على حمل السلاح ، جمع رؤساء أصحابه فذكر لهم ما اختل من أمرهم ، وأنه يريد الذب عنهم ويشخص إلى بعض الأعداء ، فدعا له الناس وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما يريد ، فأبى واختار من عسكره ألف رجل ، فسألوه الازدياد ، فلم يفعل ، وسار بهم ونهاهم على الإبقاء على أحد من العرب ، وقصد 
بلاد فارس  فأوقع بالعرب وهم غارون فقتل وأسر وأكثر . ثم قطع البحر إلى الخط فقتل من 
بالبحرين  لم يلتفت إلى غنيمة ، وسار إلى 
هجر  وبها ناس من 
تميم  وبكر بن وائل  وعبد القيس  ، فقتل منهم حتى سالت دماؤهم على الأرض ، وأباد 
عبد القيس  ، وقصد 
اليمامة  وأكثر في أهلها القتل ، وغور مياه العرب ، وقصد 
بكرا  وتغلب فيما بين مناظر 
الشام  والعراق  فقتل وسبى ، وغور مياههم ، وسار إلى قرب المدينة ففعل كذلك ، وكان ينزع أكتاف رؤسائهم ويقتلهم إلى أن هلك فسموه  
سابور  ذا الأكتاف لهذا . 
وانتقلت إياد حينئذ إلى الجزيرة ، وصارت تغير على 
السواد  ، فجهز  
سابور  إليهم الجيوش ، وكان  
لقيط الإيادي  معهم ، فكتب إلى  
إياد     : 
سلام في الصحيفة من لقيط إلى من بالجزيرة من إياد   . 
    بأن  الليث كسرى  قد أتاكم 
فلا يشغلكم سوق النقاد   . 
 [ ص: 360 ]     أتاكم منهم سبعون ألفا 
يزجون الكتائب كالجراد 
  . 
فلم يقبلوا منه وداموا على الغارة ، فكتب إليهم أيضا : 
أبلغ إيادا وطول في سراتهم أني     أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا 
  . 
وهي قصيدة مشهورة من أجود ما قيل في صفة الحرب . فلم يحذروا ، وأوقع بهم  
سابور  وأبادهم قتلا إلا من لحق 
بأرض الروم    . فهذا فعله بالعرب . 
وأما 
الروم  فإن  
سابور  كان هادن ملكهم ، وهو  
قسطنطين  ، وهو أول من تنصر من ملوك 
الروم  ، ونحن نذكر سبب تنصره عند الفراغ من ذكر  
سابور  إن شاء الله . ومات  
قسطنطين  وفرق ملكه بين ثلاثة بنين كانوا له ، فملكوا ، وملكت 
الروم  عليهم رجلا من أهل بيت  
قسطنطين  يقال له  
إليانوس  ، وكان على ملة 
الروم  الأولى ويكتم ذلك ، فلما ملك أظهر دينه ، وأعاد ملة 
الروم  ، وأخرب البيع وقتل الأساقفة ، ثم جمع جموعا من 
الروم  والخزر وسار نحو  
سابور     . 
واجتمعت العرب للانتقام من  
سابور  ، فاجتمع في عسكر  
إليانوس  منهم خلق كثير ، وعادت عيون  
سابور  إليه فاختلفوا في الأخبار ، فسار  
سابور  بنفسه مع جماعة من ثقاته نحو 
الروم  ، فلما قرب من  
يوسانوس  ، وهو على مقدمة  
إليانوس  ، اختفى وأرسل بعض من معه إلى 
الروم  ، فأخذوا وأقر بعضهم على  
سابور  ، فأرسل  
يوسانوس  إليه سرا ينذره ، فارتحل  
سابور  إلى عسكره ، وتحارب هو والعرب 
والروم  ، فانهزم عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وملكت 
الروم  مدينة 
طيسفون ، وهي المدائن الشرقية  ، وملكوا أيضا أموال  
سابور  وخزائنه .  
[ ص: 361 ] وكتب  
سابور  إلى جنوده وقواده يعلمهم ما لقي من 
الروم  والعرب ، ويستحثهم على المسير إليه ، فاجتمعوا إليه وعاد واستنقذ مدينة 
طيسفون  ، ونزل  
إليانوس  مدينة 
بهرسير  ، واختلف الرسل بينهما ، فبينما  
إليانوس  جالس أصابه سهم لا يعرف راميه فقتله ، فسقط في أيدي 
الروم  ، ويئسوا من الخلاص من بلاد 
الفرس  ، فطلبوا من  
يوسانوس  أن يملك عليهم ، فلم يفعل وأبى إلا أن يعودوا إلى النصرانية ، فأخبروه أنهم على ملته ، وإنما كتموا ذلك خوفا من  
إليانوس     . فملك عليهم . 
وأرسل  
سابور  إلى 
الروم  يتهددهم ، ويطلب الذي ملك عليهم ليجتمع به ، فسار إليه  
يوسانوس  في ثمانين رجلا ، فتلقاه  
سابور  وتساجدا وطعما ، وقوى  
سابور  أمر  
يوسانوس  بجهده ، وقال 
للروم    : إنكم أخربتم بلادنا وأفسدتم فيها ، فإما أن تعطونا قيمة ما أهلكتم وإما أن تعوضونا 
نصيبين  ، وكانت قديما 
للفرس  ، فغلبت 
الروم  عليها ، فدفعوها إليهم ، وتحول أهلها عنها ، فحول إليها  
سابور  اثني عشر ألف بيت من أهل 
إصطخر  وأصبهان  وغيرهما ، وعادت 
الروم  إلى بلادهم ، وهلك ملكهم بعد ذلك بيسير . 
وقيل : إن  
سابور  سار إلى حد 
الروم  وأعلم أصحابه أنه على قصد 
الروم  مختفيا لمعرفة أحوالهم وأخبار مدنهم ، وسار إليهم ، فجال فيهم حينا ، وبلغه أن قيصر أولم وجمع الناس فحضر بزي سائل لينظر إلى قيصر على الطعام ، ففطن به وأخذ وأدرج في جلد ثور . 
وسار قيصر بجنوده إلى أرض 
فارس  ومعه  
سابور  على تلك الحال ، فقتل وأخرب حتى بلغ 
جنديسابور  ، فتحصن أهلها وحاصرها ، فبينما هو يحاصرها إذ غفل الموكلون بحراسة  
سابور  ، وكان بقربه قوم من سبي 
الأهواز  ، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي عليه زيتا كان بقربهم ، ففعلوا ، ولان الجلد وانسل منه وسار إلى المدينة وأخبر حراسها فأدخلوه ، فارتفعت أصوات أهلها ، فاستيقظ 
الروم  ، وجمع  
سابور  من بها وعباهم ، وخرج إلى 
الروم  سحر تلك الليلة ، فقتلهم وأسر قيصر وغنم أمواله ونساءه وأثقله بالحديد ، وأمره بعمارة ما أخرب ، وألزمه بنقل التراب من بلد 
الروم  ليبني ما هدم المنجنيق من 
جنديسابور  ، وأن يغرس الزيتون مكان النخل ، ثم قطع عقبه وبعث به إلى 
الروم  على حمار وقال : هذا جزاؤك ببغيك علينا ، فأقام مدة ثم غزا فقتل وسبى سبايا أسكنهم مدينة بناها بناحية 
السوس  سماها 
إيران  شهر  
سابور  ، وبنى 
مدينة نيسابور  بخراسان  في   
[ ص: 362 ] قول ، 
وبالعراق  بزرج  
سابور     . وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة . 
وهلك في أيامه  
امرؤ القيس بن عمرو بن عدي  عامله على العرب ، فاستعمل ابنه  
عمرو بن امرئ القيس  ، فبقي في عمله بقية ملك  
سابور  وجميع أيام أخيه  
أردشير بن هرمز  وبعض أيام  
سابور بن سابور     . 
وكانت ولايته ثلاثين سنة .