صفحة جزء
[ ص: 375 ] 191

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

ذكر الفتنة من أهل طليطلة وهو وقعة الحفرة

في هذه السنة أوقع الأمير الحكم بن هشام الأموي ، صاحب الأندلس ، بأهل طليطلة ، فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها .

وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا في الأمراء ، وخلعوهم مرة بعد أخرى ، وقويت نفوسهم بحصانة بلدهم وكثرة أموالهم ، فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية ، فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الحيلة في الظفر بهم ، فاستعان في ذلك بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد ، وكان قد ظهر في هذا الوقت بالثغر الأعلى ، فأظهر طاعة الحكم ، ودعا إليه ، فاطمأن إليه بهذا السبب ، وكان من أهل مدينة وشقة ، فاستحضره فحضر عنده ، فأكرمه الحكم ، وبالغ في إكرامه ، وأطلعه على عزمه في أهل طليطلة ، وواطأه على التدبير عليهم ، فولاه طليطلة ، وكتب إلى أهلها يقول : إني قد اخترت لكم فلانا ، وهو منكم ، لتطمئن قلوبكم إليه ، وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينا ، ولتعرفوا جميل رأينا فيكم .

فمضى عمروس إليهم ، ودخل طليطلة ، فأنس به أهلها ، واطمأنوا إليه ، وأحسن عشرتهم ، وكان أول ما عمل عليهم من الحيلة أن أظهر لهم موافقتهم على بغض بني أمية ، وخلع طاعتهم ، فمالوا إليه ، ووثقوا بما يفعله ، ثم قال لهم : إن سبب الشر بينكم وبين أصحاب الأمير إنما هو اختلاطهم بكم ، وقد رأيت أن أبني بناء أعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقا بكم . فأجابوه إلى ذلك ، فبنى في وسط البلد ما أراد .

فلما مضى لذلك مدة كتب الأمير الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سرا ، يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة ، وطلب النجدة والعساكر ، ففعل العامل ذلك ، فحشد الحكم الجيوش من كل ناحية ، واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن ، وحشد معه [ ص: 376 ] قواده ووزراءه ، فسار الجيش واجتاز بمدينة طليطلة ، ولم يعرض عبد الرحمن لدخولها ، فأتاه وهو عندها الخبر من ذلك العامل أن عساكر الكفرة قد تفرقت ، وكفى الله شرها ، فتفرق العسكر ، وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة ، فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة : قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبي ، وإنه يلزمني الخروج إليه وقضاء حقه ، فإن نشطتم لذلك وإلا سرت إليه وحدي . فخرج معه وجوه أهل طليطلة ، فأكرمهم عبد الرحمن ، وأحسن إليهم .

وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادما له ، ومعه كتاب لطيف إلى عمروس ، فأتاه الخادم وصافحه ، وسلم الكتاب إليه من غير أن يحادثه ، فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة ، فأشار إلى أعيان أهلها بأن يسألوا عبد الرحمن الدخول إليهم ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم ، ومنعتهم ، وقوتهم ، فظنوه ينصحهم ، ففعلوا ذلك ، وأدخلوا عبد الرحمن البلد ، ونزل مع عمروس في داره ، وأتاه أهل طليطلة أرسالا يسلمون عليه .

وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتخذ لهم وليمة عظيمة ، وشرع في الاستعداد لذلك ، وواعدهم يوما ذكره ، وقرر معهم أنهم يدخلون من باب ، ويخرجون من آخر ليقل الزحام ، ، ففعلوا ذلك .

فلما كان اليوم المذكور أتاه الناس أفواجا ، فكان كلما دخل فوج أخذوا وحملوا إلى جماعة من الجند على حفرة كبيرة في ذلك القصر ، فضربت رقابهم عليها ، فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدا ، فقال : أين الناس ؟ فقيل : إنهم يدخلون من هذا الباب ، ويخرجون من الباب الآخر ، فقال : ما لقيني منهم أحد . وعلم الحال ، وصاح ، وأعلم الناس هلاك أصحابهم ، فكان سبب نجاة من بقي منهم ، فذلت رقابهم بعدها ، وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن ، ثم انجبرت مصيبتهم ، وكثروا ، فلما هلك عبد الرحمن وولي ابنه محمد عاجلوه بالخلع على ما نذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية