صفحة جزء
ذكر صفة الأمين وعمره وولايته

قيل : إن محمدا ولي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة ، وقتل ليلة الأحد لست بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ، وكنيته أبو موسى ، وقيل : أبو عبد الله .

( وهو ابن الرشيد هارون بن أبي عبد الله المهدي بن أبي جعفر المنصور ، وأمه زبيدة ابنة جعفر الأكبر ابن المنصور .

وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام ، وقيل : كانت ولايته النصف من جمادى الآخرة ، وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة .

[ ص: 453 ] وكان سبطا ، أنزع ، صغير العينين ، أقنى ، جميلا ، طويلا ، عظيم الكراديس ، بعيد ما بين المنكبين ، وكان مولده بالرصافة .

ولما وصل خبر قتله إلى المأمون أذن للقواد ، وقرأ الفضل بن سهل الكتاب عليهم ، فهنئوه بالظفر ودعوا له . وكتب إلى طاهر وهرثمة بخلع القاسم المؤتمن من ولاية العهد ، فخلعاه في شهر ربيع الأول من هذه السنة .

وأكثر الشعراء في مراثي الأمين وهجائه ، تركنا أكثره لأنه خارج عن التاريخ ، فمما قيل في مراثيه قول الحسين بن الضحاك ، وكان من ندمائه ، وكان لا يصدق بقتله ، ويطمع في رجوعه :

يا خير أسرته وإن زعموا إني عليك لمثبت أسف     الله يعلم أن لي كبدا
حرى عليك ومقلة تكف     ولئن شجيت بما رزئت به
إني لأضمر فوق ما أصف     هلا بقيت لسد فاقتنا أبدا
وكان لغيرك التلف     قد كان فيك لمن مضى خلف
ولسوف يعوز بعدك الخلف     لا بات رهطك بعد هفوتهم
إني لرهطك بعدها شنف     هتكوا بحرمتك التي هتكت
حرم الرسول ودونها السجف     وثبت أقاربك التي خذلت
وجميعها بالذل معترف     تركوا حريم أبيهم نفلا
والمحصنات صوارخ هتف     أبدت مخلخلها على دهش أبكارهن
ورنت النصف سلبت معاجرهن     واجتليت ذات النقاب ونوزع الشنف
فكأنهن خلال منتهب     در تكشف دونه الصدف
ملك تخون ملكه قدر     فوهى وصرف الدهر مختلف
[ ص: 454 ] هيهات بعدك أن يدوم لنا عز     وأن يبقى لنا شرف
أفبعد عهد الله تقتله     والقتل بعد أمانه سرف
فستعرفون غدا بعاقبة     عز الإله فأوردوا وقفوا
يا من تخون نومه أرق     هدت الشجون وقلبه لهف
قد كنت لي أملا غنيت به     فمضى وحل محله الأسف
مرج النظام وعاد منكرنا عرفا     وأنكر بعدك العرف والشمل منتشر
لفقدك والدنيا سدى والبال منكسف



وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أمه زبيدة ، وتخاطب المأمون ، وكنية زبيدة أم جعفر :

لخير إمام قام من خير عنصر     وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم     وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها     إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقد مسني ضر وذل كآبة     وأرق عيني يابن عمي تفكري
وهمت لما لاقيت بعد مصابه     فأمري عظيم منكر جد منكر
سأشكو الذي لاقيته بعد فقده     إليك شكاة المستضيم المقهر
وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته     فأنت لبثي خير رب مغير
أتى طاهر لا طهر الله طاهرا     فما طاهر فيما أتى بمطهر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا     وأنهب أموالي وأخرب أدوري
[ ص: 455 ] يعز على هارون ما قد لقيته     وما مر بي ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أبدى بأمر أمرته     صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي     فديتك من ذي حرمة متذكر



فلما قرأها المأمون بكى ، وقال : أنا - والله - الطالب بثأر أخي ، قتل الله قتلته .

ولقد أسرف الحسين بن الضحاك في مراثي الأمين ، وذم المأمون ، فلهذا حجبه المأمون عنه ولم يسمع مديحه مدة ، ثم أحضره يوما ، فقال له : أخبرني ! هل رأيت يوم قتل أخي هاشمية قتلت وهتكت ؟ قال : لا ! قال : فما قولك :

ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي     محارم من آل النبي استحلت
ومهتوكة بالخلد عنها سجوفها كعاب     كقرن الشمس حين تبدت إذا خفرتها روعة
من منازع لها المرط عاذت بالخشوع ورنت     وسرب ظباء من ذؤابة هاشم
هتفن بدعوى خير حي وميت     أرد يدا مني إذا ما ذكرته على كبد حرى
وقلب مفتت فلا بات ليل الشامتين بغبطة     ولا بلغت آمالها ما تمنت



فقال : يا أمير المؤمنين ! لوعة غلبتني ، وروعة فاجأتني ، ونعمة سلبتها بعد أن غمرتني ، وإحسان شكرته فأنطقني ، وسيد فقدته فأقلقني ، فإن عاقبت فبحقك ، وإن عفوت فبفضلك .

فدمعت عين المأمون وقال : قد عفوت عنك ، وأمرت بإدرار أرزاقك عليك ، وعطائك ما فاتك متمما ، وجعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك .

[ ص: 456 ] ثم إن المأمون رضي عنه وسمع مديحه .

ومما قيل في هجائه :

لم نبكيك ، لماذا ؟ للطرب يا أبا موسى     وترويج اللعب ولترك الخمس في أوقاتها
حرصا منك على ماء العنب وشنيف     أنا لا أبكي له وعلى كوثر
لا أخشى العطب لم تكن     تعرف ما حد الرضى لا
ولا تعرف ما حد الغضب     لم تكن تصلح للملك ولم
تعطك الطاعة بالملك العرب     لم نبكيك ؟ لما عرضتنا
للمجانيق وطورا للسلب     في عذاب وحصار مجهد
سدد الطرق ، فلا وجه الطلب     زعموا أنك حي حاشر
كل من قد قال هذا فكذب     ليته قد قاله في وجدة من
جميع ذاهب حيث ذهب     أوجب الله علينا قتله
وإذا ما أوجب الأمر وجب     كان والله علينا فتنة
غضب الله عليه وكتب



وقيل فيه غير ذلك ، تركنا ذكره خوف الإطالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية