صفحة جزء
ذكر بعض سيرة الأمين

لما ملك الأمين وكاتبه المأمون ، وأعطاه بيعته - طلب الخصيان وأتباعهم وغالى فيهم ، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره ، وقوام طعامه وشرابه ، وأمره ونهيه ، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية ، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية ، ورفض النساء الحرائر والإماء ، حتى رمي بهن ، وقيل فيه الأشعار ، [ ص: 457 ] فمما قيل فيه :

ألا يا أيها الثاوي بطوس عزيبا ما يفادى بالنفوس     لقد أبقيت للخصيان هقلا
تحمل منهم شؤم البسوس     فأما نوفل فالشأن فيه
وفي بدر ، فيالك من جليس     وما للمعصمي شيء لديه إذا
ذكروا بذي سهم خسيس     وما حسن الصغير أخس حا
لا لديه عند مخترق الكئوس     لهم من عمره شطر وشط
ر يعاقر فيه شرب الخندريس     وما للغانيات لديه حظ
سوى التقطيب بالوجه العبوس     إذا كان الرئيس كذا سقيما
فكيف صلاحنا بعد الرئيس     فلو علم المقيم بدار طوس
لعز على المقيم بدار طوس

ثم وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين ، وضمهم إليه ، وأجرى عليهم الأرزاق ، واحتجب عن أخويه وأهل بيته ، واستخف بهم وبقواده ، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه ، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه ، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد ، والفيل ، والعقاب ، والحية ، والفرس ، وأنفق في عملها مالا عظيما ، فقال أبو نواس في ذلك :

سخر الله للأمين مطايا     لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا سار في     الماء راكبا ليث غاب
[ ص: 458 ] عجب الناس إذ رأوك على     صورة ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه     كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحي     ن تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا     ما استعجلوها بجيئة وذهاب



قال الكوثر : أمر الأمين أن يفرش له على دكان في الخلد يوما ، ففرش عليها بساط زرعي ، ونمارق ، وفرش مثله ، وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم ، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة ، فتصعد إليه عشرا عشرا بأيديهن العيدان ، يغنين بصوت واحد ، فأصعدت إليه عشرا ، فاندفعن يغنين بصوت واحد :

هم قتلوه كي يكونوا مكانه     كما غدرت يوما بكسرى مرازبه


فسبهن وطردهن ، ثم أمرها فأصعدت عشرا غيرهن فغنينه :

من كان مسرورا بمقتل مالك     فليأت نسوتنا بوجه نهار


ففعل ما فعله ، وأطرق طويلا ، ثم قال : أصعدي عشرا . فأصعدتهن فغنين :

كليب لعمري كان أكثر ناصرا     وأيسر جرما منك ضرج بالدم


فقام من مجلسه ، وأمر بهدم الدكان ، تطيرا مما كان .

قيل : وذكر محمد الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان ، فقال : كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه :

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر     ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر



فبلغت القصة الأمين ، فحبس أبا نواس .

[ ص: 459 ] ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم ، أو معدلة ، أو تجربة ، حتى نذكرها ، وهذا القدر كاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية