صفحة جزء
ذكر ملك يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف

ومن أهل العلم من يقول إن يزدجرد هذا هو أخو بهرام كرمان شاه بن سابور لا ابنه ، وكان فظا غليظا ذا عيوب كثيرة يضع الشيء في غير مواضعه ، كثير الرؤية في الصغائر ، واستعمال كل ما عنده في المواربة والدهاء والمخاتلة ، مع فطنة بجهات الشر وعجب به ، وكان غلقا سيء الخلق ، لا يغفر الصغيرة من الزلات ، ولا يقبل شفاعة أحد من الناس وإن كان قريبا منه ، كثير التهمة ، ولا يأتمن أحدا على شيء ، ولم يكن يكافئ أحدا على حسن البلاء ، وإن هو أولى الخسيس من العرف استعظمه ، وإذا بلغه أن أحدا من أصحابه صافى أحدا من أهل صناعته نحاه عن خدمته . وكان فيه مع ذلك ذكاء ذهن وحسن أدب ، وقد مهر في صنوف من العلم ، واستوزر نرسي حكيم زمانه ، وكان فاضلا قد كمل أدبه ، ولقبه هزار بيده ، فأمل الناس أن يصلح نرسي منه ، فكان ما أملوه بعيدا .

فلما استوى له الملك واشتدت شوكته هابته الأشراف والعظماء ، وحمل على الضعفاء فأكثر من سفك الدماء .

فلما ابتليت الرعية به ، شكوا ما نزل بهم منه إلى الله تعالى ، وسألوه تعجيل إنقاذهم [ ص: 365 ] منه ، فزعموا أنه كان بجرجان فرأى ذات يوم في قصره فرسا عائرا لم ير مثله ، فأخبر به ، فأمر أن يسرج ويلجم ويدخل عليه ، فلم يقدر أحد على ذلك ، فأعلم بذلك ، فخرج إليه بنفسه وألجمه بيده وأسرجه ، فلما رفع ذنبه ليثفره رمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه ، وملأ الفرس فروجه جريا ولم يعلم له خبر ، وكان ذلك من صنع الله ورأفته بهم .

وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوما .

وأما العرب ، فقيل : إنه لما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن عدي في عهد سابور استخلف سابور على عمله أوس بن قلام ، وهو من العماليق ، فملك خمس سنين وقتل في عهد بهرام بن سابور ، فاستخلف بعده في عمله امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس البدء ، فبقي خمسا وعشرين سنة ، وهلك أيام يزدجرد الأثيم .

فاستخلف بعده في عمله ابنه النعمان وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان ، وهو صاحب الخورنق . وسبب بنائه له أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد ، فسأل عن منزل مريء صحيح ، فدل على ظاهر الحيرة ، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا وأمره ببناء الخورنق مسكنا له وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب ، وكان الذي بنى الخورنق رجلا اسمه سنمار . فلما فرغ من بنائه تعجبوا منه ، فقال : لو علمت أنكم توفونني أجري لعملته يدور مع الشمس . فقال : وإنك تقدر على ما هو أفضل منه ! ثم أمر به فألقي من رأس الخورنق فهلك ، فضربت العرب بجزائه المثل ، وهو مذكور في أشعارها .

وغزا النعمان هذا الشام مرارا ، وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم ، وجعل معه [ ص: 366 ] ملك فارس كتيبتين يقال إحداها دوس وهي لتنوخ ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس ، فكان يغزو بها الشام ومن لم يطعه من العرب .

ثم إنه جلس يوما في مجلسه من الخورنق ، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والأنهار في يوم من أيام الربيع ، فأعجبه ذلك . فقال لوزيره : هل رأيت مثل هذا المنظر قط ؟ قال : لا لو كان يدوم . قال : فما الذي يدوم ؟ قال : ما عند الله في الآخرة . قال : فبم ينال ذلك ؟ قال : بتركك الدنيا وعبادة الله . فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح وخرج هاربا لا يعلم به ، فأصبح الناس فلم يروه .

وكان ملكه إلى أن تركه وساح تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر ، من ذلك في أيام يزدجرد خمس عشرة سنة ، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة .

وأما علماء الفرس فإنهم يقولون غير هذا ، وسيرد ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية