صفحة جزء
ذكر فتح عمورية

لما خرج ملك الروم ، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل ، بلغ الخبر إلى المعتصم ، فلما بلغه ذلك استعظمه ، وكبر لديه ، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت ، وهي أسيرة في أيدي الروم : وامعتصماه ! فأجابها وهو جالس على سريره : لبيك لبيك ! ونهض من ساعته ، وصاح في قصره : النفير النفير ، ثم ركب دابته ، وسمط خلفه شكالا ، وسكة حديد ، وحقيبة فيها زاده ، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة وجمع العساكر ، فجلس في دار العامة ، وأحضر قاضي بغداد ، وهو عبد الرحمن بن إسحاق ، وشعبة بن سهل ، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة ، فأشهدهم على ما وقف من الضياع ، فجعل ثلثا لولده ، وثلثا لله تعالى ، وثلثا لمواليه .

ثم سار فعسكر بغربي دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى ، ووجه عجيف بن عنبسة ، وعمر الفرغاني ، ومحمد كوتاه ، وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلها ، فوجدوا ملك الروم قد انصرف عنها إلى بلاده ، بعدما فعل ما ذكرناه ، فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم ( واطمأنوا .

فلما ظفر المعتصم ببابك قال : أي بلاد الروم أمنع وأحصن ؟ فقيل : عمورية لم [ ص: 39 ] يعرض لها أحد منذ كان الإسلام ، وهي عين النصرانية ، وهي أشرف عندهم ) من القسطنطينية . فسار المعتصم بسر من رأى .

وقيل كان مسيره سنة اثنتين وعشرين .

وقيل سنة أربع وعشرين .

وتجهز جهازا لم يتجهزه خليفة قبله قط من السلاح ، والعدد ، والآلة ، وحياض الأدم ، والروايا ، والقرب ، وغير ذلك ، وجعل على مقدمته أشناس ، ويتلوه محمد بن إبراهيم بن مصعب ، وعلى ميمنته إيتاخ ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط ، وعلى القلب عجيف بن عنبسة ، فلما دخل بلاد الروم نزل على نهر السن ، وهو على سلوقية ، قريبا من البحر ، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم ، وعليه يكون الفداء .

وأمضى المعتصم الأفشين إلى سروج ، وأمره بالدخول من درب الحدث ، وسمى له يوما يكون دخوله فيه ، ويوما يكون اجتماعهم فيه ، وسير أشناس من درب طرسوس ، وأمره بانتظاره بالصفصاف ، فكان مسير أشناس لثمان بقين من رجب ، وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس ، ( ورحل المعتصم لست بقين من رجب .

فلما صار " أشناس " ) بمرج أسقف ، ورد عليه كتاب المعتصم ، ( من المطامير يعلمه أن ملك الروم بين يديه ، وأنه يريد [ أن ] يكسبهم ، ويأمر بالمقام إلى أن يصل إليه ، فأقام ثلاثة أيام فورد عليه كتاب المعتصم ) يأمره أن يوجه قائدا من قواده [ في ] سرية يلتمسون رجلا من الروم يسألونه عن خبر الملك ، فوجه أشناس عمر الفرغاني في مائتي فارس ، فدخل حتى بلغ أنقرة ، وفرق أصحابه في طلب رجل رومي ، فأتوه بجماعة بعضهم من ( عسكر الملك ، وبعضهم من ) السواد ، فأحضرهم عند أشناس ، فسألهم عن الخبر ، فأخبروه أن الملك مقيم أكثر من ثلاثين يوما ينتظر مقدمة المعتصم ليواقعهم [ ص: 40 ] فأتاه الخبر بأن عسكرا عظيما قد دخل بلادهم من ناحية الأرمنياق ، يعني عسكر الأفشين ، قالوا : فلما أخبر استخلف ابن خاله على عسكره ، وسار يريد ناحية الأفشين ، فوجه أشناس بهم إلى المعتصم ، فأخبروه الخبر ، فكتب المعتصم كتابا إلى الأفشين يعلمه أن ملك الروم قد توجه إليه ، ويأمره أن يقيم مكانه ، خوفا عليه من الروم ، إلى أن يرد عليه كتابه ، وضمن لمن يوصل كتابه إلى الأفشين عشرة آلاف درهم .

فسارت الرسل بالكتاب إلى الأفشين ، فلم يروه لأنه أوغل في بلاد الروم وكتب المعتصم إلى أشناس يأمره بالتقدم ، فتقدم والمعتصم من ورائه ، فلما رحل أشناس نزل المعتصم مكانه ، حتى صار بينه وبين أنقرة ثلاث مراحل ، فضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف .

وكان أشناس قد أسر في طريقه عدة أسرى ، فضرب أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير ، فقال له : ما تنتفع بقتلي ، وأنت وعسكرك في ضيق ، وهاهنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا منكم ، وهم بالقرب منا ، معهم الطعام والشعير وغيرهما ، فوجه معي قوما لأسلمهم إليهم ، وخل سبيلي ! فسير معه خمسمائة فارس ، ودفع الشيخ إلى مالك بن كيدر ، وقال له : متى أراك هذا الشيخ سبيا كثيرا ، أو غنيمة كبيرة ، فخل سبيله .

فسار بهم الشيخ ، فأوردهم على واد وحشيش ، فأمرجوا دوابهم ، وشربوا وأكلوا ، وساروا حتى خرجوا من الغيضة ، وسار بهم الشيخ حتى أتى جبلا ، فنزله ليلا ، فلما أصبحوا قال الشيخ : وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل ، فينظرا ما فوق ، فيأخذان من أدركا ! فصعد أربعة ، فأخذوا رجلا وامرأة ، فسألهما الشيخ عن أهل أنقرة ، فدلاه عليهم ، فسار بالناس حتى أشرف على أهل أنقرة ، وهم في طرف ملاحة ، فلما رأوا العسكر أدخلوا النساء والصبيان الملاحة ، وقاتلوهم على طرفها ، وغنم المسلمون منهم وأخذوا من الروم عدة أسرى ، وفيهم من فيه جراحات عتق ( متقدمة ) فسألوهم عن تلك الجراحات ، فقالوا : كنا في وقعة الملك معالأفشين ، وذلك أن الملك لما كان [ ص: 41 ] معسكرا أتاه الخبر بوصول الأفشين في عسكر ضخم ناحية الأرمنياق ، واستخلف على عسكره بعض أقربائه ، وسار إليهم ، فواقعناهم صلاة الغداة ، فهزمناهم ، وقتلنا رجالتهم كلهم ، وتقطعت عساكرنا في طلبهم ، فلما كان الظهر رجع فرسانهم ، فقاتلونا قتالا شديدا حتى خرقوا عسكرنا ، واختلطوا بنا ، فلم ندر أين الملك ، وانهزمنا منهم ، ورجعنا إلى معسكر الملك الذي خلفه ، فوجدنا العسكر قد انتقض ، وانصرفوا عن قرابة الملك .

فلما كان الغد جاء الملك في جماعة يسيرة ، فرأى عسكره قد اختل ، وأخذ الذي كان استخلفه عليهم ، فضرب عنقه ، وكتب إلى المدن والحصون أن لا يأخذوا أحدا انصرف من العسكر إلا ضربوه بالسياط ، وردوه إلى مكان سماه لهم الملك ، ليجتمع إليه الناس ، ويلقى المسلمين ، وأن الملك وجه خصيا له إلى أنقرة ; ليحفظ أهلها ، فرآهم قد أجلوا عنها ، فكتب إلى الملك بذلك ، فأمره بالمسير إلى عمورية ، فرجع مالك بن كيدر بما معهم من الغنيمة والأسرى إلى عسكر أشناس ، وغنموا في طريقهم ، بقرا ، وغنما كثيرا ، فلما بلغ مالك بن كيدر عسكر أشناس أخبره بما سمع ، فأعلم المعتصم بذلك ، فسر به .

فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء البشير من ناحية الأفشين بخبر السلامة ، وكانت الوقعة لخمس بقين من شعبان ، فلما كان الغد قدم الأفشين على المعتصم وهو بأنقرة ، فأقاموا ثلاثة أيام .

ثم جعل المعتصم العسكر ثلاثة عساكر : عسكر فيه أشناس في الميسرة ، والمعتصم في القلب ، وعسكر الأفشين في الميمنة ، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان ، وأمر كل عسكر أن يكون له ميمنة وميسرة ، وأمرهم أن يحرقوا القرى ، ويخربوها ، ويأخذوا من لحقوا فيها ، ثم ترجع كل طائفة إلى صاحبها ، يفعلون ذلك في ما بين أنقرة وعمورية ، وبينهما سبع مراحل ، ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية .

وكان أول من وردها أشناس ، ثم المعتصم ، ثم الأفشين ، فداروا حولها ، وقسمها بين القواد ، وجعل لكل واحد منهم أبراجا منها على قدر أصحابه .

وكان رجل من المسلمين قد أسره الروم بعمورية ، فتنصر ، فلما رأى المسلمين خرج [ ص: 42 ] إليهم ، فأخبر المعتصم أن موضعا من المدينة وقع سوره من سيل أتاه ، فكتب الملك إلى عامل عمورية ليعمره ، فتوانى ، فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يرى السور خرابا ، فبنى وجهه حجرا حجرا ، وعمل الشرف على ( جسر ) خشب ، فرأى المعتصم ذلك المكان ، فأمر بضرب خيمته هناك ، ونصب المجانيق على ذلك الموضع ، فانفرج السور من ذلك الموضع .

فلما رأى الروم ذلك جعلوا عليه خشبا كبارا كل عود يلزق الآخر ، وكان المنجنيق يكسر الخشب ، فجعلوا عليه براذع ، فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور ، وكتب الخصي ، وبطريق عمورية - واسمه ناطس - كتابا إلى ملك الروم يعلمه أمر السور ، وسيره مع رجلين ، فأخذهما المسلمون ، وسألهما المعتصم ، وفتشهما ، فرأى الكتاب ، وفيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة ، وقد كان دخوله إليها خطأ ، وأن ناطس عازم على أن يركب في خاصته ليلا ، ويحمل على العسكر كائنا ما كان ، حتى يخلص ويسير إلى الملك ، فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر لهما ببدرة ، وهي عشرة آلاف درهم ، وخلع ، فأسلما ، فأمر بهما ، فطافا حول عمورية ، وأن يقفا مقابل البرج الذي فيه ناطس ، ( فوقفا وعليهما الخلع ، والأموال بين أيديهما ، فعرفهما ناطس ) ومن معه من الروم ، فشتموهما .

وأمر المعتصم بالاحتياط في الحراسة ليلا ونهارا ، فلم يزالوا كذلك حتى انهدم السور ما بين برجين من ذلك الموضع ، وكان المعتصم أمر أن يطم خندق عمورية بجلود الغنم المملوءة ترابا ، فطموه ، وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور ، فدحرجوا واحدة منها ، فلما صارت في نصف الخندق تعلقت بتلك الجلود ، فما تخلص من فيها إلا بعد شدة وجهد ، وعمل سلاليم ومنجنيقات .

فلما كان الغد من يوم انهدم السور قاتلهم على الثلمة ، فكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه ، وكان الموضع ضيقا ، فلم يمكنهم الحرب فيه ، فأمدهم المعتصم [ ص: 43 ] بالمنجنيقات التي حول السور ، فجمع بعضها إلى بعض حول الثلمة وأمر أن يرمى ذلك الموضع .

وكانت الحرب في اليوم الثاني عشر على الأفشين وأصحابه ، وأجادوا الحرب ، وتقدموا ، والمعتصم على دابته بإزاء الثلمة ، وأشناس والأفشين وخواص القواد معه ، فقال المعتصم : ما أحسن ما كان الحرب اليوم ! وقال عمر الفرغاني : الحرب اليوم أجود منها الأمس ، فأمسك أشناس .

فلما انتصف النهار ، وانصرف المعتصم والناس ، وقرب أشناس من مضربه ، ترجل له القواد ، كما كانوا يفعلون ، وفيهم الفرغاني ، وأحمد بن الخليل بن هشام ، فقال لهم أشناس : يا أولاد الزنا ! إيش تمشون بين يدي ، كان ينبغي أن تقاتلوا أمس ؛ حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين ، فتقولون الحرب اليوم أجود منها أمس ، كان يقاتل أمس غيركم ، انصرفوا إلى مضاربكم ، فلما انصرف الفرغاني ، وأحمد بن الخليل ، قال أحدهما للآخر : ألا ترى إلى هذا العبد ابن الفاعلة ، يعني أشناس ، ما صنع اليوم ؟ أليس الدخول إلى الروم أهون من هذا ؟

فقال الفرغاني لأحمد ، وكان عنده علم من العباس بن المأمون : سيكفيك الله أمره عن قريب ، فألح أحمد عليه ، فأخبره ، فأشار عليه أن يأتي العباس فيكون في أصحابه ، فقال أحمد : هذا أمر أظنه لا يتم ، قال الفرغاني : قد تم ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي فأتاه ، فرفع الحارث خبره إلى العباس ، فكره العباس أن يعلم بشيء من أمره ، فأمسكوا عنه .

فلما كان اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب المعتصم ، ومعهم المغاربة والأتراك ، وكان القيم بذلك إيتاخ ، فقاتلوا ، وأحسنوا ، واتسع لهم هدم السور ، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت الجراحات في الروم .

وكان بطارقة الروم قد اقتسموا أبراج السور ، وكان البطريق الموكل بهذه الناحية " وندوا " وتفسيره : ثور ، فقاتل ذلك اليوم قتالا شديدا ، وفي الأيام قبله ، ولم يمده ناطس ، ولا غيره بأحد ، فلما كان الليل مشى " وندوا " إلى الروم فقال : إن الحرب علي وعلى أصحابي ، ولم يبق معي أحد إلا جرح ، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون [ ص: 44 ] قليلا ، وإلا ذهبت المدينة ، فلم يمدوه بأحد ، وقالوا : لا نمدك ولا تمدنا ، فعزم هو وأصحابه على الخروج إلى المعتصم يسألونه الأمان على الذرية ، ويسلمون إليه الحصن بما فيه .

فلما أصبح وكل أصحابه بجانبي الثلمة وأمرهم أن لا يحاربوا ، وقال : أريد الخروج إلى المعتصم ، فخرج إليه فصار بين يديه ، والناس يتقدمون إلى الثلمة ، وقد أمسك الروم عن القتال ، حتى وصلوا إلى السور ، والروم يقولون : لا تخشوا ، وهم يتقدمون ، و " وندوا " جالس عند المعتصم ، فأركبه فرسا ، وتقدم الناس حتى صاروا في الثلمة ، وعبد الوهاب بن علي بين يدي المعتصم يومئ إلى المسلمين بالدخول ، فدخل الناس المدينة ، فالتفت " وندوا " وضرب بيده على لحيته ، فقال له المعتصم : ما لك ؟ قال : جئت أسمع كلامك ، فغدرت بي ، قال المعتصم : كل شيء تريده فهو لك ، ولست أخالفك ، قال : إيش تخالفني ، وقد دخل الناس المدينة .

وصار طائفة كبيرة من الروم إلى كنيسة كبيرة لهم ، فأحرقها المسلمون عليهم ، فهلكوا كلهم ، وكان ناطس في برجه ، حوله أصحابه ، فركب المعتصم ، ووقف مقابل ناطس ، فقيل له : يا ناطس ! هذا أمير المؤمنين ، وظهر من البرج وعليه سيف ، فنحاه عنه ، ونزل حتى وقف بين يديه ، فضربه سوطا ، وسار المعتصم إلى مضربه ، وقال : هاتوه ! فمشى قليلا ، فأمر المعتصم بحمله ، وأخذ السيف الروم ، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه ، فأمر المعتصم أن يعزل منهم أهل الشرف ، ونقل من سواهم ، وأمر ببيع المغانم في عدة مواضع ، فبيع منها أكثر من خمسة أيام ، وأمر بالباقي فأحرق .

وكان لا ينادي على شيء أكثر من ثلاثة أصوات ، ثم يوجب بيعه ، طلبا للسرعة ، وكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة [ و ] عشرة عشرة ، طلبا للسرعة .

ولما كان في بعض الأيام بيع المغانم ، وهو الذي كان عجيف وعد الناس أن يثور فيه بالمعتصم على ما نذكره ، وثب الناس على المغانم ، فركب المعتصم ، والسيف في يده ، وسار ركضا نحوهم ، فتنحوا عنها ، وكفوا عن النهب ، فرجع إلى مضربه ، وأمر بعمورية فهدمت وأحرقت ، وكان نزوله عليها لست خلون من شهر رمضان ، وأقام عليها خمسة وخمسين يوما ، وفرق الأسرى على القواد ، وسار نحو طرسوس .

التالي السابق


الخدمات العلمية