صفحة جزء
ذكر بعض سيرة الواثق بالله

لما توفي المعتصم ، وجلس الواثق في الخلافة أحسن إلى الناس ، واشتمل على العلويين ، وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم ، والتعهد لهم بالأموال ، وفرق في أهل [ ص: 108 ] الحرمين أموالا لا تحصى ، حتى إنه لم يوجد في أيامه بالحرمين سائل .

ولما توفي الواثق كان أهل المدينة تخرج من نسائهم كل ليلة إلى البقيع ، فيبكين عليه ، ويندبنه ، ففعلوا عليه ذلك بينهم مناوبة; حزنا عليه ، لما كان يكثر من الإحسان إليهم ، وأطلق في خلافته أعشار سفن البحر ، وكان مالا عظيما .

قال الحسين بن الضحاك : شهدت الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام ، أول مجلس جلسه ، فغنته جارية إبراهيم بن المهدي .


ما درى الحاملون ، يوم استقلوا نعشه ، للثواء أم للبقاء     فليقل فيك باكياتك ما شئن
، صباحا ، وعند كل مساء

فبكى ، وبكينا معه حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه ، قال : ثم تغنى بعضهم فقال :


ودع هريرة إن الركب مرتحل ،     وهل تطيق وداعا أيها الرجل

فازداد الواثق بكاء ، وقال : ما سمعت كاليوم تعزية بأب نعي نفس ، ثم تفرق أهل المجلس .

قال : وقال أحمد بن عبد الوهاب في الواثق :


أبت دار الأحبة أن تبينا     أجدك ما رأيت لها معينا
تقطع حسرة من حب ليلى     نفوس ما أثبن ولا جزينا

فصنعت فيه علم جارية صالح بن عبد الوهاب ، فغناه زرزر الكبير للواثق ، فسأله : [ ص: 109 ] لمن هذا ؟ فقال : لعلم ، فأحضر صالحا وطلب منه شراءها ، فأهداها له ، فعوضه خمسة آلاف دينار ، فمطله بها ابن الزيات ، فأعادت الصوت ، فقال الواثق : بارك الله عليك ، وعلى من رباك ! فقالت : وما ينفع من رباني ؟ أمرت له بشيء فلم يصل إليه ! فكتب إلى ابن الزيات يأمره بإيصال المال إليه ، وأضعفه له ، فدفع إليه عشرة آلاف دينار ، وترك صالح عمل السلطان ، واتجر في المال .

وقال أبو عثمان المازني النحوي : استحضرني الواثق من البصرة ، فلما حضرت عنده قال : من خلفت بالبصرة ؟ قلت : أختا لي صغيرة . قال : فما قالت المسكينة ؟ قلت : ما قالت ابنة الأعشى :


تقول ابنتي ، حين جد الرحيل :     أرانا سواء ومن قد يتم
فيا أبتا لا تزل عندنا     فإنا نخاف بأن تخترم
أرانا إذا أضمرتك البلاد     نجفى وتقطع منا الرحم

قال : فما رددت عليها ؟ قلت : ما قال جرير لابنته :


ثقي بالله ليس له شريك     ومن عند الخليفة بالنجاح

فضحك ، وأمر له بجائزة سنية .

التالي السابق


الخدمات العلمية