[ ص: 276 ] ذكر 
قتل  صالح بن وصيف  
وفيها قتل  
صالح بن وصيف  لثمان بقين من صفر ، وكان سببه أن  
المهتدي  لما كان لثلاث بقين من المحرم أظهر كتابا زعم أن امرأة دفعته إلى  
سيما الشرابي  ، وقالت : إن فيه نصيحة ، وإن منزلها بمكان كذا ، فإن طلبوني فأنا فيه . وطلبت المرأة فلم توجد . 
وقيل إنه لم يدر من ألقى الكتاب . 
ودعا  
المهتدي  القواد ،  
وسليمان بن وهب  ، فأراهم الكتاب ، فزعم  
سليمان  أنه خط  
صالح  ، فقرأه على القواد ، فإذا فيه أنه مستخف 
بسامرا  ، وإنما استتر طلبا للسلامة وإبقاء الموالي ، وطلبا لانقطاع الفتن ، وذكر ما صار إليه من أموال الكتاب ، 
وأم المعتز  ، وجهة خروجها ، ويدل فيه على قوة نفسه ، فلما فرغوا من قراءته وصله  
المهتدي  بالحث على الصلح ، والاتفاق ، والنهي عن التباغض والتباين ، فاتهمه الأتراك بأنه يعرف مكان  
صالح  ويميل إليه ، وطال الكلام بينهم في ذلك . 
فلما كان الغد اجتمعوا بدار  
موسى بن بغا  داخل 
الجوسق  ، واتفقوا على خلع  
المهتدي  ، فقال لهم بايكباك : إنكم قتلتم  
ابن المتوكل  ، وهو حسن الوجه ، سخي الكف ، فاضل النفس ، وتريدون قتل هذا ، وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ ، من غير ذنب ! والله لئن قتلتم هذا لألحقن 
بخراسان    ( لأشيع أمركم هناك ) . 
فاتصل الخبر  
بالمهتدي  ، فتحول من مجلسه متقلدا سيفا ، وقد لبس ثيابا نظافا وتطيب ، ثم أمر بإدخالهم عليه ، فدخلوا فقال لهم : بلغني ما أنتم عليه ، ولست كمن تقدمني مثل  
المستعين  ،  
والمعتز  ، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط ، وقد أوصيت إلى أخي بولدي ، وهذا سيفي والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي ، والله لئن سقط مني شعرة ليهلكن وليذهبن أكثركم . 
كم هذا الخلاف على الخلفاء ، والإقدام ، والجرأة على الله ! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ، ومن كان إذا بلغه هذا منكم دعا بالنبيذ فشربه مسرورا بمكروهكم ،   
[ ص: 277 ] حتى تعلموا أنه وصل إلى شيء من دنياكم ، أما إنكم لتعلمون أن بعض المتصلين بكم أيسر من جماعة من أهلي وولدي ( سوأة لكم ) ، يقولون : إني أعلم بمكان  
صالح  ، وهل هو إلا رجل من الموالي ؟ فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه ؟ وإذا أبرمتم الصلح فيه كان ( ذلك ما أنفذه لجميعكم ، وإن أبيتم فشأنكم ، واطلبوا صالحا ، وأما أنا فما أعلم مكانه ) . 
قالوا : فاحلف لنا على ذلك ! قال : أما اليمين فنعم ، ولكنها تكون بحضرة 
بني هاشم  ، والقضاة غدا إذا صليت الجمعة ; ثم قال  
لبايكباك  ولمحمد بن بغا     : قد حضرتما ما عمله  
صالح  في أموال الكتاب ، 
وأم المعتز  ، فإن أخذ منه شيئا فقد أخذتما مثله ، فأحفظهما ذلك ، ثم أرادوا خلعه ، وإنما منعهم خوف الاضطراب وقلة الأموال ، فأتاهم مال من 
فارس  عشرة آلاف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم ، فلما كان سلخ المحرم انتشر الخبر في العامة أن القوم قد اتفقوا على خلع المهتدي والفتك به ، وأنهم قد أرهقوه ، وكتبوا الرقاع ورموها في الطرق والمساجد ، مكتوب فيها : يا معشر المسلمين ادعوا الله لخليفتكم العدل ، الرضا ، المضاهي  
 nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر بن الخطاب  ، وأن ينصره الله على عدوه ، ويكفيه مئونة ظالمه ، وتتم النعمة عليه ، وعلى هذه الأمة ببقائه ، فإن الأتراك قد أخذوه بأن يخلع نفسه ، وهو يعذب منذ أيام ، وصلى الله على 
محمد    . 
فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر تحرك الموالي 
بالكرخ  والدور  ، وبعثوا إلى  
المهتدي  ، وسألوه أن يرسل إليهم بعض إخوته ليحملوه رسالة ، فوجه إليهم أخاه  
أبا القاسم عبد الله  ، فذكروا له أنهم سامعون مطيعون ، وأنهم بلغهم أن  
موسى  ، وجماعة معه يريدونه على الخلع ، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك ( وما هم دون ذلك ) ، وشكوا تأخر أرزاقهم ، وما صار من الأقطاع ، والزيادات ، والرسوم إلى قوادهم التي قد أجحفت بالخراج والضياع ، ما قد أخذوا النساء والدخلاء ، فكتبوا بذلك كتابا ، فحمله   
[ ص: 278 ] إلى  
المهتدي  وكتب جوابه بخطه : قد فهمت كتابكم ، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم ، فأحسن الله جزاءكم ، وأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم فعزيز علي ذلك ، ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بأن لا آكل ولا أشرب ولا أطعم ولدي إلا القوت ، ولا أكسوه ) إلا ستر العورة ، وأنتم تعلمون ما صار إلي من الأموال ، وأما ما ذكرتم من الإقطاعات وغيرها فأنا أنظر في ذلك وأصرفه إلى محبتكم إن شاء الله تعالى . 
فقرءوا الكتاب وكتبوا ، بعد الدعاء ، يسألون أن يرد الأمور في الخاص والعام إلى أمير المؤمنين ، لا يعترض عليه معترض ، وأن يرد رسومهم إلى ما كان عليه أيام  
المستعين  ، وهو أن يكون على كل تسعة عريف ، وعلى كل خمسين خليفة ، وعلى كل مائة قائد ، وأن يسقط النساء والزيادات ، ولا يدخل مولى في ماله ولا غيره ، وأن يوضع لهم العطاء كل شهرين ، وأن تبطل الإقطاعات ، وذكروا أنهم سائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم ، وإن بلغهم أن أحدا اعترض عليه أخذوا رأسه ، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا بها  
موسى بن بغا  وبايكباك  وياجور  وغيرهم . 
وأرسلوا الكتاب مع  
أبي القاسم  ، وتحولوا إلى 
سامرا  ، فاضطرب القواد جدا ; وقد كان  
المهتدي  قعد للمظالم ، وعنده الفقهاء ، والقضاة ، وقام القواد في مراتبهم ، فدخل  
أبو القاسم  إليه بالكتاب ، فقرأه للقواد قراءة ظاهرة ، وفيهم  
موسى  ، وكتب جوابه بخطه ، فأجابهم إلى ما سألوا ، ودفعه إلى  
أبي القاسم  ، فقال  
أبو القاسم  لموسى بن بغا  ،  
وبايكباك  ،  
ومحمد بن بغا     : وجهوا معي رسلا يعتذرون إليهم عنكم ; فوجهوا معه رسلا ، فوصلوا إلى 
الأتراك  ، وهم زهاء ألف فارس ، وثلاثة آلاف راجل ، وذلك لخمس خلون من صفر ، فأوصل الكتاب ، وقال : إن أمير المؤمنين قد أجابكم إلى ما سألتم ، وقال لهم : هؤلاء رسل القواد إليكم ، يعتذرون من شيء إن كان بلغكم عنهم ، وهم يقولون إنما أنتم إخوة ، وأنتم منا وإلينا ، واعتذر عنهم .  
[ ص: 279 ] فكتبوا إلى  
المهتدي  يطلبون خمسة توقيعات ، توقيعا بخط الزيادات ، وتوقيعا برد الإقطاعات ، وتوقيعا بإخراج الموالي البرانيين من الخاصة إلى البرانيين ، وتوقيعا برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين ، وتوقيعا برد البلاجي ، ثم يجعل أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته ، أو غيرهم ممن يرى ليرفع إليهم أمورهم ، ولا يكون رجلا من الموالي ، وأن يحاسب  
صالح بن وصيف  ،  
وموسى بن بغا  عما عندهما من الأموال ويجعل لهم العطاء كل شهرين ، لا يرضيهم إلا ذلك ، ودفعوا الكتاب إلى  
أبي القاسم  ، وكتبوا كتابا آخر إلى القواد  
موسى  وغيره [ ذكروا فيه ] أنهم كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا ، وأنه لا يمنعهم شيئا مما طلبوا إلا أن يعترضوا عليه ، وأنهم إن فعلوا ذلك لم يوافقوهم ، وأن أمير المؤمنين إن شاكه شوكة ، وأخذ من رأسه شعرة ، أخذوا رءوسهم جميعا ، ولا يقنعهم إلا أن يظهر  
صالح  ، ويجتمع هو  
وموسى بن بغا  حتى ينظر أين الأموال . 
فلما قرأ  
المهتدي  الكتاب أمر بإنشاء التوقيعات الخمسة على ما سألوا ، وسيرها إليهم مع  
أبي القاسم  وقت المغرب ، وكتب إليهم بإجابتهم إلى ما طلبوا ، وكتب إليهم  
موسى بن بغا     ( كذلك ، وأذن ) في ظهور  
صالح  ، وذكر أنه أخوه وابن عمه ، وأنه ما أراد ما يكرهون ، فلما قرءوا الكتابين قالوا قد أمسينا ، وغدا نعرفكم رأينا ، فافترقوا . 
فلما كان الغد ركب  
موسى  من دار الخليفة ، ومعه من عسكره ألف وخمسمائة رجل ، فوقف على طريقهم ، وأتاهم  
أبو القاسم  ، فلم يعقل منهم جوابا إلا كل طائفة يقولون شيئا ، فلما طال الكلام انصرف  
أبو القاسم  ، فاجتاز  
بموسى بن بغا  وهو في أصحابه ، فانصرف معه . 
ثم أمر  
المهتدي  محمد بن بغا  أن يسير إليهم مع أخيه  
أبي القاسم  ، فسار في خمسمائة فارس ، ورجع  
موسى  إلى مكانه بكرة ، وتقدم  
أبو القاسم  ومحمد بن بغا  فواعداهم عن  
المهتدي  ، وأعطياهم توقيعا فيه أمان  
صالح بن وصيف  ، موكدا غاية التوكيد ، فطلبوا أن يكون  
موسى  في مرتبة  
بغا الكبير  ،  
وصالح  في مرتبة أبيه ، ويكون الجيش ( في يد من )   
[ ص: 280 ] هو في يده ، وأن يظهر  
صالح بن وصيف  ، ويوضع لهم العطاء ، ثم اختلفوا ، فقال قوم : قد رضينا ; وقال قوم : لم نرض ; فانصرف  
أبو القاسم  ومحمد بن بغا  على ذلك ، وتفرق الناس إلى 
الكرخ  ، 
والدور  وسامرا    . 
فلما كان الغد ركب 
بنو وصيف  في جماعة معهم ، وتنادوا : السلاح ، ونهبوا دواب العامة ، وعسكروا 
بسامرا  ، وتعلقوا  
بأبي القاسم  ، وقالوا : نريد  
صالحا     ! وبلغ ذلك  
المهتدي  ، فقال  
لموسى     : يطلبون  
صالحا  مني كأني أنا أخفيته ، إن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه . 
ثم ركب  
موسى  ، ومن معه من القواد ، فاجتمع الناس إليه ، فبلغ عسكره أربعة آلاف فارس ، وعسكروا ، وتفرق الأتراك ومن معهم ، ولم يكن 
للكرخيين  ولا 
للدوريين  في هذا اليوم حركة ، وجد  
موسى  ومن معه في طلب  
ابن وصيف  ، واتهموا جماعة به ، فلم يكن عندهم ، ثم إن غلاما دخل دارا وطلب ماء ليشربه ، فسمع قائلا يقول : أيها الأمير تنح ، فإن غلاما يطلب ماء ، فسمع الغلام الكلام ، فجاء إلى عيار فأخبره ، فأخذ معه ثلاثة نفر ، وجاء إلى  
صالح  ، وبيده مرآة ومشط ، وهو يسرح لحيته ، فأخذه ، فتضرع إليه ، فقال : لا يمكنني تركك ولكني أمر بك على ديار أهلك وقوادك ، وأصحابك ، فإن اعترضك منهم اثنان أطلقتك . 
فأخرج حافيا ليس على رأسه شيء ، والعامة تعدو خلفه ، وهو على برذون بأكاف ، فأتوا به نحو 
الجوسق  ، فضربه بعض أصحاب  
موسى  على عاتقه ، ثم قتلوه ، وأخذوا رأسه ، وتركوا جثته ، ووافوا به دار  
المهتدي  قبل المغرب ، فقالوا له في ذلك : فقال واروه ، ثم حمل رأسه وطيف به على قناة ، ونودي عليه : هذا جزاء من قتل مولاه . 
ولما قتل أنزل  
موسى  رأس  
بغا  الصغير ، وسلم إلى أهله ليدفنوه ، ولما قتل  
صالح  قال  
السلولي  لموسى بن بغا     : 
أخذت وترك من فرعون حين طغى وجئت إذ جئت يا موسى على قدر 
 [ ص: 281 ]     ثلاثة كلهم باغ أخو حسد 
يرميك بالظلم والعدوان عن وتر     وصيف في الكرخ ممثول به  وبغا  
بالجسر محترق بالنار والشرر     وصالح بن وصيف  بعد منعفر 
بالحير جثته والروح في سقر