صفحة جزء
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج

لما أنفذ الموفق الكتاب إلى العلوي ، ولم يرد جوابه ، عرض عسكره ، وأصلح آلاته ، ورتب قواده ، ثم سار هو وابنه أبو العباس في العشرين من رجب إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة ، وأشرف عليها ، وتأملها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق ، وغور الطريق إليها ، وما أعد من المجانيق والعرادات ، والقسي ، وسائر الآلات على سورها ، مما لم ير مثله لمن تقدم من منازعي السلطان ، ورأى من كثرة عدد المقاتلة ما استعظمه .

فلما عاين الزنج أصحاب الموفق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجت الأرض ، فأمر الموفق ابنه بالتقدم إلى سور المدينة ، والرمي لمن عليه بالسهام ، فتقدم حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخبيث ، فكثر الزنج وأصحابهم على أبي العباس ومن معه ، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم ، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم ، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أو حجر .

وثبت أبو العباس ، فرأى العلوي من صبره وثبات أصحابه ما لم ير مثله من أحد [ ص: 383 ] [ ممن ] حاربهم ، ثم أمرهم الموفق بالرجوع ففعلوا ، استأمن إلى الموفق مقاتلة في سميريتين ، فأمنهم ، فخلع على من فيهما من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم وأمر بإدنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم ، وكان ذلك من أنجع المكايد ، فلما رآهم الباقون رغبوا في الأمان ، وتنافسوا فيه ، وابتدروا إليه ، فصار إلى الموفق عدد كثير ذلك اليوم من أصحاب السميريات ، فعمهم بالخلع والصلات .

فلما رأى صاحب الزنج ذلك أمر برد أصحابه إلى السميريات إلى نهر أبي الخصيب ، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج ، وأمر بهبود ، وهو من شر قواده ، أن يخرج في الشذوات ، فخرج وبرز إليه أبو العباس في شذواته ، وقاتله ، واشتدت الحرب ، فانهزم بهبود إلى فناء قصر الخبيث ، وأصابته طعنتان ، وجرح بالسهام ، وأوهنت أعضاؤه بالحجارة ، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت ، فقتل ممن كان معه قائد ذو بأس يقال له عميرة ، وظفر أبو العباس بشذاة فقتل أهلها ، ورجع هو ومن معه سالمين ، فاستأمن إلى أبي العباس أهل شذاة منهم ، فأمنهم ، وأحسن إليهم ، وخلع عليهم .

ورجع الموفق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك ، استأمن إليه عند منصرفه خلق كثير ، فأمنهم ، وخلع عليهم ، ووصلهم ، وأثبت أسماءهم مع أبي العباس ، وأقام عسكره يومين ، ثم نقل عسكره لست بقين من رجب إلى نهر جطى فنزله ، وأقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل .

ثم ركب منتصف شعبان في الخيل والرجال وأعد الشذا والسميريات ، وكان من معه من الجند والمتطوعة زهاء خمسين ألفا ، وكان من مع الخبيث أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان ، كلهم ممن يقاتل بسيف ، أو رمح ، أو قوس ، أو مقلاع ، أو منجنيق ، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم ، وهم النظارة ، والنساء تشركهم في ذلك ، فأقام أبو أحمد ذلك اليوم ، ونودي بالأمان للناس كافة إلا الخبيث ، وكتب الأمان في رقاع ، ورماها في السهام ، ووعد فيها الإحسان ، فمالت قلوب أصحاب الخبيث ، واستأمن ذلك اليوم خلق كثير ، فخلع عليهم ووصلهم ، ولم يكن ذلك اليوم حرب .

ثم رحل من نهر جطى من الغد ، فعسكر قرب مدينة الخبيث ، ورتب قواده [ ص: 384 ] وأجناده ، وعين لكل طائفة موضعا يحافظون عليه ويضبطونه ، وكتب الموفق إلى البلاد في عمل السميريات ، والشذوات ، والزواريق ، والإكثار منها ليضبط بها الأنهار ، ليقطع الميرة عن الخبيث ، وأسس في منزلته مدينة سماها الموفقية ، وكتب إلى عماله في النواحي بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته ، وأمرهم بإنفاذ من يصلح للإثبات في الديوان ، وأقام ينتظر ذلك شهرا ، فوردت عليه الميرة متتابعة ، وجهز التجار صنوف التجارات إلى الموفقية ، واتخذت فيها الأسواق ، ووردتها مراكب البحر ، وبنى الموفق بها المسجد الجامع ، وأمر الناس بالصلاة فيه ، فجمعت هذه المدينة من المرافق ، وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة وحملت الأموال ، وأدرت الأرزاق .

وعبرت طائفة من الزنج ، فنهبوا أطراف عسكر نصير ، وأوقعوا به ، فأمر الموفق نصيرا بجمع عسكره وضبطهم ، وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة ، فقاتلهم ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وغنم ما كان معهم ، فصار إليه منهم في الأمان ، فأمنهم ، وخلع عليهم ووصلهم ، وأقام أبو أحمد يكايد الخبيث ببذل الأموال لمن صار إليه ، ومحاصرة الباقين ، والتضييق عليهم .

وكانت قافلة قد أتت من الأهواز ، وأسرى إليها بهبود في سميريات فأخذها ، وعظم ذلك على الموفق ، وغرم لأهلها ما أخذ منهم ، وأمر بترتيب الشذوات على مخارج الأنهار ، وقلد ابنه أبا العباس الشذا ، وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذي هم به .

وفي رمضان عبر طائفة من أصحاب الخبيث يريدون الإيقاع بنصير ، ( فنذر بهم الناس ، فخرجوا إليهم ) فردوهم خائبين ، وظفروا بصندل الزنجي ، كان يكشف رءوس المسلمات ، ويقلبهن تقليب الإماء ، فلما أتي به أمر الموفق أن يرمى بالسهام ثم قتله .

[ ص: 385 ] واستأمن إلى الموفق من الزنج خلق كثير ، فبلغت عدة من استأمن إليه في آخر رمضان خمسين ألفا .

وفي شوال انتخب صاحب الزنج من عسكره خمسة آلاف من شجعانهم وقوادهم ، وأمر علي بن أبان المهلبي بالعبور لكبس عسكر الموفق ، فكان فيهم أكثر من مائتي قائد ، فعبروا ليلا ، واختفوا في آخر النخل ، وأمرهم ، إذا ظهر أصحابهم ، وقاتلوا الموفق من بين يديه ، ظهروا ، وحملوا على عسكره وهم غارون ، مشاغيل بحرب من أمامهم ، فأستأمن منهم إنسان من الملاحين ، فأخبر الموفق ، فسير ابنه أبا العباس لقتالهم وضبط الطرق التي يسلكونها ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وأسر أكثرهم ، وغرق منهم خلق كثير ، وقتل بعضهم ، ونجا بعضهم ، فأمر أبو العباس أن يحمل الأسرى ، والرءوس ، والسميريات ويعبر بهم على مدينة الخبيث ، ففعلوا ذلك .

وبلغ الموفق أن الخبيث قال لأصحابه : إن الأسرى من المستأمنة ، وإن الرءوس تمويه عليهم ، فأمر بإلقاء الرءوس في منجنيق إليهم ، فلما رأوها عرفوها ، فأظهروا الجزع والبكاء ، وظهر لهم كذب الخبيث .

وفيها أمر الخبيث باتخاذ شذوات ، فعملت له ، فكانت له خمسون شذاة فقسمها بين ثلاثة من قواده ، وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفق ; وكانت شذوات الموفق يومئذ قليلة لأنه لم يصل إليه ما أمر بعمله ، والتي كانت عنده منها فرقها على أفواه الأنهار لقطع الميرة عن الخبيث ، فخافهم أصحاب الموفق ، فورد عليهم شذوات كان الموفق أمر بعملها ، فسير ابنه أبا العباس ليوردها خوفا عليها من الزنج ، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذواتهم ، فقصدهم غلام لأبي العباس ليمنعهم ، وقاتلهم ، فانكشفوا بين يديه ، وتبعهم حتى أدخلهم نهر الخصيب ، انقطع عن أصحابه ، فعطفوا عليه ، فأخذوه ، ومن معه بعد حرب شديدة ، فقتلوا ، وسلمت الشذوات مع أبي العباس ، وأصلحها ، ورتب فيها من يقاتل .

ثم أقبلت شذوات العلوي على عادتها ، فخرج إليهم أبو العباس في أصحابه ، فقاتلهم ، فهزمهم ، وظفر منهم بعدة شذوات ، فقتل منهم من ظفر به فيها ، فمنع الخبيث أصحابه من الخروج عن فناء قصره ، وقطع أبو العباس الميرة عنهم ، فاشتد جزع [ ص: 386 ] الزنج ، وطلب جماعة من وجوه أصحابه الأمان ، فأمنوا ، وكان منهم محمد بن الحارث القمي ، وكان إليه ضبط السور مما يلي عسكر الموفق ، فيخرج ليلا ، فأمنه الموفق ، ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه ، وحمله على عدة دواب بآلاتها وحليتها ، وأراد إخراج زوجته فلم يقدر ، فأخذها الخبيث فباعها ; ومنهم أحمد اليربوعي ، وكان من أشجع رجال العلوي ، وغيرهما ، فخلع عليهم ، ووصلهم بصلات كثيرة .

ولما انقطعت الميرة والمواد عن العلوي أمر شبلا وأبا البذي ، وهما من رؤساء قواده [ الذين ] يثق بهم ، بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة على المسلمين ، وقطع الميرة عن الموفق ، فسير الموفق إليهم زيرك في جمع من أصحابه ، فلقيهم بنهر ابن عمر ، فرأى كثرتهم ، فراعه ذلك ، ثم استخار الله تعالى في قتالهم ، فحمل عليهم وقاتلهم ، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموا ، ووضع فيهم السيف ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وغرق منهم مثل ذلك ، وأسر خلقا كثيرا ، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه ، وغرق ما أمكنه تغريقه ، وكان ما أخذه من سفنهم نحو أربعمائة سفينة ، وأقبل بالأسارى والرءوس إلى مدينة الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية