صفحة جزء
ذكر ابتداء أمر القرامطة

وفيها تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة ، وكان ابتداء أمرهم ، فيما ذكر ، أن رجلا منهم قدم ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة ، فكان بموضع يقال له النهرين ، يظهر الزهد ، والتقشف ، ويسف الخوص ، ويأكل من كسب يده ، ويكثر الصلاة ، فأقام على ذلك مدة ، فكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين ، وزهده في الدنيا ، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة ، حتى فشا ذلك [ عنه ] بموضعه ، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من آل بيت الرسول ، فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير .

وكان يقعد إلى بقال هناك . فجاء قوم إلى البقال يطلبون منه رجلا يحفظ عليهم ما [ ص: 462 ] صرموا من نخلهم ، فدلهم عليه وقال لهم : إن أجابكم إلى حفظ تمركم فإنه بحيث تحبون ، فكلموه في ذلك ، فأجابهم على أجرة معلومة ، فكان يحفظ لهم ، ويصلي أكثر نهاره ، ويصوم ، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر فيفطر عليه ، ويجمع نوى ذلك التمر ويعطيه البقال ، فلما حمل التجار تمرهم حاسبوا أجيرهم عند البقال ، ودفعوا إليه أجرته ، وحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر ، وحط ثمن النوى ، فسمع أصحاب التمر محاسبته للبقال بثمن النوى فضربوه ، وقالوا له : ألم ترض بأكل تمرنا ، حتى بعت النوى ؟ فقال لهم البقال : لا تفعلوا ! وقص عليهم القصة ، فندموا على ضربه ، واستحلوا منه ما فعل ، وازداد بذلك عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده .

ثم مرض ، فمكث على الطريق مطروحا ، وكان في القرية رجل أحمر العينين ، يحمل على أثوار له ، يسمونه كرميتة لحمرة عينيه ، وهو بالنبطية أحمر العين ، فكلم البقال الكرميتة في حمل المريض إلى منزله والعناية به ، ففعل ، وأقام عنده حتى برأ ، ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه ، فأجابوه ، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارا ، ويزعم أنه للإمام ، واتخذ منهم اثني عشر نقيبا أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم ، وقال : أنتم كحواريي عيسى ابن مريم ، فاشتغل أهل كور تلك الناحية على أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات .

كان للهيصم في تلك الناحية ضياع ، فرأى تقصير الأكرة في عمارتها ، فسأل عن ذلك ، فأخبر بخبر الرجل ، فأخذه ، وحبسه ، وحلف أن يقتله لما اطلع على مذهبه ، وأغلق باب البيت عليه ، وجعل مفتاح البيت تحت وسادته ، واشتغل بالشرب ، فسمع بعض من في الدار من الجواري بمساءته ، فرقت للرجل ، فلما نام الهيصم أخذت المفتاح ، وفتحت الباب وأخرجته ، ثم أعادت المفتاح إلى مكانه ، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده .

[ ص: 463 ] وشاع ذلك في الناس ، فافتتن أهل تلك الناحية ، ( وقالوا : رفع ) ، ثم ظهر في ناحية أخرى ، ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم ، وسألوه عن قصته ، فقال : لا يمكن أحدا أن ينالني بسوء ! فعظم في أعينهم ، ثم خاف على نفسه ، فخرج إلى ناحية الشام ، فلم يوقف له على خبر ، وسمي باسم الرجل الذي كان في داره كرميتة صاحب الأثوار ، ثم خفف فقيل قرمط ، هكذا ذكره بعض أصحاب زكرويه عنه .

وقيل إن قرمط لقب رجل كان بسواد الكوفة يحمل غلة السواد على أثوار له ، واسمه حمدان ، ثم فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة .

ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم ، فجعل على الرجل منهم في السنة دينارا ، فقدم قوم من الكوفة ، فرفعوا أمر القرامطة ، والطائي إلى السلطان ، وأخبروه أنهم قد أحدثوا دينا غير دين الإسلام ، وأنهم يرون السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا من بايعهم ، فلم يلتفت إليهم ولم يسمع قولهم .

وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاءوا بكتاب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ! يقول الفرج بن عثمان ، وهو من قرية يقال لها نصرانة ، داعية المسيح ، وهو عيسى ، وهو الكلمة ، وهو المهدي ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية ، وهو جبريل ، وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان ، وقال له : إنك الداعية ، وإنك الحجة ، وإنك الناقة ، وإنك الدابة ، وإنك يحيى بن زكرياء ، وإنك روح القدس .

وعرفه أن الصلاة أربع ركعات : ركعتان قبل طلوع الشمس ، وركعتان بعد غروبها ، وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، مرتين ، أشهد أن آدم رسول الله ، أشهد أن نوحا رسول الله ، أشهد أن إبراهيم رسول الله ، أشهد أن موسى رسول الله ، أشهد أن عيسى رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله ، وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح ، وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية ، والقبلة إلى بيت [ ص: 464 ] المقدس ، [ والحج إلى بيت المقدس ] ، وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء ، والسورة : الحمد لله بكلمته ، وتعالى باسمه ، المتخذ لأوليائه بأوليائه .

يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام ، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب ، وأنا الذي لا أسأل عما أفعل ، وأنا العليم الحكيم ، وأنا الذي أبلو عبادي ، وأمتحن خلقي ، فمن صبر على بلائي ، ومحنتي ، واختباري ألقيته في جنتي ، وأخلدته في نعمتي ، ومن زال عن أمري ، وكذب رسلي أخذته مهانا في عذابي ، وأتممت أجلي ، وأظهرت أمري على ألسنة رسلي .

وأنا الذي لم يعل علي جبار إلا وضعته ، ولا عزيز إلا ذللته ، وليس الذي أصر على أمره ، ودام على جهالته ، وقالوا : لن نبرح عليه عاكفين ، وبه موقنين ، أولئك هم الكافرون .

ثم يركع ، ويقول في ركوعه : سبحان ربي رب العزة ، وتعالى عما يصف الظالمون ، يقولها مرتين ، فإذا سجد قال : الله أعلى ، الله أعلى ، الله أعظم ، الله أعظم .

ومن شريعته أن يصوم يومين في السنة ، وهما المهرجان والنيروز ، وأن النبيذ حرام ، والخمر حرام ، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة ، وأن من حاربه وجب قتله ، ومن لم يحاربه ممن يخالفه أخذ منه الجزية ، ولا يؤكل كل ذي ناب ، ولا كل ذي مخلب .

وكان مسير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج ، فسار قرمط إليه ، وقال له : إني على مذهب ورأي ، ومعي مائة ألف ضارب سيف ، فتناظرني ، فإن اتفقنا على المذهب ملت بمن معي ، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك ، فتناظرا ، فاختلفت آراؤهما ، فانصرف قرمط عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية