صفحة جزء
[ ص: 496 ] 284

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

في هذه السنة كان فتنة بطرسوس بين راغب مولى الموفق وبين دميانة .

وكان سبب ذلك أن راغبا ترك الدعاء لهارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ، ودعا لبدر مولى المعتضد ، واختلف هو وأحمد بن طوغان ، فلما انصرف أحمد بن طوغان من الفداء سنة ثلاث وثمانين [ ومائتين ] ركب البحر ومضى ، ولم يدخل طرسوس ، وخلف دميانة بها للقيام بأمرها ، وأمده ابن طوغان ، فقوي بذلك ، وأنكر ما كان يفعله راغب ، ( فوقعت الفتنة ، فظفر بهم راغب ) ، فحمل دميانة إلى بغداذ .

وفيها أوقع عيسى بن النوشري ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بنواحي أصبهان ، فقتل رجاله ، واستباح عسكره ، ونجا بكر في نفر يسير من أصحابه ، فمضى إلى محمد بن زيد العلوي بطبرستان ، وأقام عنده إلى سنة خمس وثمانين [ ومائتين ] ومات ، ولما وصل خبر موته إلى المعتضد أعطى القاصد به ألف دينار .

وفيها ، في ربيع الأول ، قلد أبو عمر يوسف بن يعقوب القضاء بمدينة المنصور ( مكان علي بن محمد ) بن أبي الشوارب .

[ ص: 497 ] وفيها أخذ خادم نصراني لغالب النصراني وشهد عليه أنه شتم النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع أهل بغداذ وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله ، وطالبوه بإقامة الحد عليه ، فلم يفعل ، فاجتمعوا على ذلك إلى دار المعتضد ، فسئلوا عن حالهم ، فذكروه للمعتضد ، فأرسل معهم إلى القاضي ( أبي عمر ، فكادوا يقتلونه من كثرة ازدحامهم ، فدخل ) بابا ، وأغلقه ، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر ، ولا للعامة ذكر اجتماع في أمره .

وفيها قدم قوم من أهل طرسوس على المعتضد يسألونه أن يولي عليهم واليا ، وكانوا قد أخرجوا عامل ابن طولون ، فسير إليهم المعتضد ابن الإخشيد أميرا .

وفيها ، في ربيع الآخر ظهرت بمصر ظلمة وحمرة في السماء شديدة ، حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمر ، فمكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة ، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله تعالى ، ويتضرعون إليه .

وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر ، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس ، وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته ، إلا أنه قد استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصح ، وذكر في الكتاب يزيد ، وغيره من بين أمية ، وعملت به نسخ قرئت بجانبي بغداذ ، ومنع القصاص والعامة من القعود بالجامعين ورحابهما ، ونهي عن الاجتماع على قاض لمناظرة ، أو جدل في أمر الدين ، ونهي الذين يسقون الماء في الجامعين أن يترحموا على معاوية ، أو يذكروه .

فقال له عبيد الله بن سليمان : إنا نخاف اضطراب العامة ، وإثارة الفتنة ، فلم يسمع منه ، فقال عبيد الله للقاضي يوسف بن يعقوب ليحتال في منعه عن ذلك ، فكلم يوسف المعتضد ، وحذره اضطراب العامة ، فلم يلتفت ، فقال : يا أمير المؤمنين ، فما نصنع بالطالبيين الذين يخرجون من كل ناحية ، ويميل إليهم خلق كثير من الناس لقرابتهم من [ ص: 498 ] رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؟ فإذا سمع الناس ما في هذا الكتاب من إطرائهم كانوا إليهم أميل ، وكانوا هم أبسط ألسنة ، وأظهر حجة فيهم اليوم ، فأمسك المعتضد ، ولم يأمر في الكتاب بعد ذلك بشيء ، وكان عبيد الله من المنحرفة من علي ، عليه السلام .

وفيها سير المعتضد إلى عمرو بن الليث الخلع واللواء بولاية الري ، وهدايا .

وفيها فتحت قرة من بلد الروم على يد راغب مولى الموفق ، وابن كلوب في رجب .

وفيها ، في شعبان ظهر بدار المعتضد إنسان بيده سيف ، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو ، فضربه بالسيف فجرحه ، وهرب الخادم ، ودخل الشخص في زرع في البستان فتوارى فيه ، فطلب في باقي ليلته ، ومن الغد ، فلم يعرف له خبر ، فاستوحش المعتضد ، وكثر الناس في أمره بالظنون حتى قالوا : إنه من الجن ، وظهر مرارا كثيرة ، حتى وكل المعتضد بسور داره ، وأحكمه ضبطا ، ثم أحضر المجانين والمعزمين بسبب ذلك الشخص ، فسألهم عنه فقال المعزمون : نحن نعزم على بعض المجانين ، فإذا سقط سأل الجني عنه فأخبره خبره ، فعزموا على امرأة مجنونة فصرعت ، والمعتضد ينظر إليهم ، فلما صرعت أمرهم بالانصراف .

وفيها وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين ذكر أنهم من القرامطة ، فقرروا بالضرب فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه منهم ، فقبض عليه وحبسه .

وفيها وثب الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم فقتله ، وكان أخوه عمر بن عبد العزيز قد أخذه وقيده وحبسه في قلعته زز ، ووكل به [ ص: 499 ] شفيعا الخادم ، ومعه جماعة من غلمان عمر ، فلما استأمن عمر إلى المعتضد وهرب بكر بقيت القلعة بما فيها من الأموال بيد شفيع ، فكلمه أبو ليلى في إطلاقه ، فلم يفعل ، وطلب من غلام كان يخدمه مبردا ، فأدخله في الطعام ، فبرد مسمار قيده .

وكان شفيع في كل ليلة يأتي إلى أبي ليلى يفتقده ويمضي وينام ، وتحت رأسه سيف مسلول ، فجاء شفيع في ليلة إليه ، فحادثه ، فطلب منه أن يشرب معه أقداحا ، ففعل ، وقام الخادم لحاجته ، فجعل أبو ليلى في فراشه ثيابا تشبه إنسانا نائما ، وغطاها باللحاف ، وقال لجارية كانت تخدمه : إذا عاد شفيع قولي له هو نائم .

ومضى أبو ليلى فاختفى ظاهر الدار ، وقد أخرج قيده من رجله ، فلما عاد شفيع قالت له الجارية : هو نائم ، فأغلق الباب ، ومشى إلى داره ، ونام فيها ، فخرج أبو ليلى ، وأخذ السيف من عند شفيع ، وقتله ، فوثب الغلمان ، فقال لهم أبو ليلى : قد قتلت شفيعا ، ومن تقدم إلي قتلته ، فأنتم آمنون ، فخرجوا من الدار ، واجتمع الناس إليه فكلمهم ، ووعدهم الإحسان ، وأخذ عليهم الأيمان ، وجمع الأكراد ، وغيرهم ، وخرج مخالفا على المعتضد .

وكان قتل شفيع في ذي القعدة .

ولما خرج أبو ليلى على السلطان قصده عيسى النوشري ، فاقتتلوا ، فأصاب أبو ليلى في حلقه سهم فنحره ، فسقط عن دابته ، وانهزم أصحابه ، وحمل رأسه إلى أصبهان ، ثم إلى بغداذ .

وفيها كان المنجمون يوعدون بغرق أكثر الأقاليم إلا إقليم بابل فإنه يسلم منه اليسير ، وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار ، وزيادة الأنهار ، والعيون .

( فقحط الناس ، وقلت الأمطار ، وغارت المياه حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء ، فاستسقوا ببغداذ مرات ) .

[ وحج بالناس محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي المعروف بأترنجة ] .

وفيها ظهر اختلال حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر ، واختلفت [ ص: 500 ] القواد ، وطمعوا ، فانحل النظام ، وتفرقت الكلمة ، ثم اتفقوا على أن جعلوا مدبر دولته أبا جعفر بن أبا ، وكان عند والده وجده مقدما ، كبير القدر ، فأصلح من الأحوال ما استطاع ، ( وكم جهد الصناع إذا اتسع الخرق ) .

وكان [ من ] بدمشق من الجند قد خالفوا على أخيه جيش كما ذكرنا ، فلما تولى أبو جعفر الأمور سير جيشا إلى دمشق عليهم بدر الحمامي ، والحسين بن أحمد الماذرائي ، فأصلحا حالها ، وقررا أمور الشام ، واستعملا على دمشق طغج بن جف ، واستعملا على سائر الأعمال ، ورجعا إلى مصر ، والأمور فيها اختلال ، والقواد قد استولى كل واحد منهم على طائفة من الجند وأخذهم إليه ، وهكذا يكون انتقاض الدول ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد لحكمه ، وهو سريع الحساب .

[ الوفيات ]

وفيها توفي إسحاق بن موسى بن عمران أبو يعقوب الأسفرايني الفقيه الشافعي .

والغياثي ، واسمه عبد العزيز بن معاوية من ولد عتاب بن أسيد ، بفتح الهمزة وكسر السين .

وفيها أيضا توفي أبو عبد الله محمد بن الوضاح بن ربيع الأندلسي ، وكان من العلماء المشهورين .

التالي السابق


الخدمات العلمية